بالنسبة الى السواد الأعظم من الفلسطينيين، لا يُعد قرار إسرائيل إخلاء مستوطنات غزة وشمال الضفة، حتى في حال تنفيذه، مؤشراً على أيلولة الاستيطان في عموم الأرض المحتلة منذ 1967 إلى المصير ذاته. هذا التشاؤم يبدو مخالفاً للمنطق، ومع ذلك نحسب أنه ينطوي على تقدير صحيح للموقف بالنظر إلى الحيثيات والتفصيلات الكثيرة التي سبقت الخطوة الإسرائيلية في إطارها. لقد أوشكت عملية الإخلاء هذه وفقاً لخطة آرييل شارون المصادقات الحكومية والنيابية الإسرائيلية ذات الصلة، على بداية التطبيق، لكن مسؤولاً واحداً من نخبة إسرائيل الحاكمة لم يلمح، ناهيك عن أن يصرح، إلى كون هذه العملية تنتمي حرفياً إلى استحقاقات خارطة الطريق أو إنه ستتلوها عمليات مماثلة لتسوية قضية الاستيطان. ما يحدث هو العكس على طول الخط. أي التوكيد على عدم الاستناد إلى خطة غزة كسابقة يعتد بها عند الاستطراد إلى هذه القضية، وإبلاغ كل من يهمهم الأمر جهرا بأن إسرائيل تزمع الاحتفاظ ببعض الكتل الاستيطانية وعدم المساس بها في أيّة تسوية مع الجانب الفلسطيني.

يشهد بجدية هذا التوجه وطبيعته الاستراتيچية غير القابلة للمناورة، حصوله على مصادقة أميركية عبر الوعد الرئاسي من چورچ بوش (14-4-2004). وكان من شأن هذا الوعد، وما زال، تشجيع التشدد الإسرائيلي في عصيان الشرعية الدولية الخاصة بالقضية، وجوهرها ضرورة الإزالة الكاملة للاستيطان والمستوطنين وكنسه من الكيان الفلسطيني.

يجدر بالفلسطينيين إذن أن يقلقوا ما وسعهم من جراء النيات والسياسات الإسرائيلية، المشفوعة بهوامش سماح أميركية متواطئة واسعة، إزاء مستقبل قضية الاستيطان. بيد أن القلق وما يبنى عليه من تعبيرات عن السخط والتأفف والاحتجاج والتنديد، لا يغني عن الحاجة إلى مراتب أرقى من سياسات المواجهة. ويقع في الطليعة هنا الاستعصام بمطلب الإزالة الكاملة للمستوطنات، وبيان فضائل هذا الخيار، ليس فقط بسبب شرعيته الحقوقية القانونية وتعبيره عن العدالة الدولية، وإنما أيضاً وأساساً لرذائل وسوءات الحياد عنه والانصراف إلى توخي بدائل أخرى يجري التلويح بها بين حين وآخر. ومنها بقاء المستوطنات بمن وما عليها في حيز الكيان (الدولة؟!) الفلسطيني، أو ضمها كلياً أو جزئياً إلى إسرائيل مع تحريك حدود 1967.

وللإنصاف فإن الخطاب الفلسطيني في هذا الشأن أوفى ببيان الفرص التي تعنيها تصفية الاستيطان تماماً بالنسبة لاستقرار الدولة الفلسطينية المأمولة داخلياً واستتباب حال السلام مع الدولة اليهودية بالجوار. كما أوضح هذا الخطاب المخاطر المضمرة في ضم المستوطنات والمتأتية عنه، بغض النظر عن حجمها إلى السيادة الإسرائيلية، حتى إن اقترن ذلك بتطبيق مبدأ تبادل الأراضي بين الدولتين. هذا على حين بقي بديل الإبقاء على الاستيطان تحت السيادة الفلسطينية الأقل حظاً من التداول والإضاءة لجهة الصعوبات المترتبة على الأخذ به.

فحوى هذا البديل اعتبار المستوطنين على الأرض الفلسطينية بعد استقلالها والاعتراف بها كدولة ذات سيادة، مجرد مجموعة من الأجانب الذين يخضعون للقانون الفلسطيني وتعامله مع هذه الشريحة. ووفقاً لاقتراح طرحه أحمد قريع (أبو علاء) رئيس الوزراء الفلسطيني الحالي في عام 1998، فإن المستوطنين بصفتهم هذه (أجانب)، يمكنهم التقدم بطلبات للحصول على الجنسية الفلسطينية. وفي حال الموافقة على ذلك لمن أراد منهم، يمكنهم التحول إلى مواطنين أسوياء ومتساوين في الحقوق والواجبات.

وعلى رغم ما يعنيه هذا العرض من أريحية فلسطينية في تخيير المستوطنين، إلا أنهم سينظرون إليه بعين الدهشة والامتعاض. فهو يستبطن إجراء تحول كبير ينهي علاقة السيطرة والامتياز والحماية الخاصة التي عاشوا في كنفها سنوات الاحتلال الممتد. ولن يسهل على هؤلاء في كل حال القطع الفجائي مع وضعية سوغت لهم النظرة الاستعلائية تجاه الفلسطينيين. بمثل ما إنه سيصعب تجريف مشاعر الكراهية التي راكمتها بين يدي المحيط الفلسطيني سياسات الاحتلال وسلوكيات المستوطنين طول هذه السنوات. وجدلاً قد لا يكون من بدِ، بناء على ذلك سوى تفكير المستوطنين في الرحيل، لا سيما وأن كيانهم السياسي يقع بالجوار تماماً. يتسق هذا التوقع مع السوابق. فغالباً ما كان استقلال كيان خضع للاحتلال مؤسساً لحالات الانفصال والهجرات السكانية على قاعدة التمايز القومي.

لا ريب أن استشراف هذه التداعيات يقوي احتمال رفض المستوطنين لهذا الحل والعمل على إفشاله، لكنه يعزز من ناحية أخرى احتمال طرحه تفاوضياً من الجانب الفلسطيني. وقد يبرر هذا الطرح أيضاً أن الترحيب الفلسطيني باستمرار وجود المستوطنين كأجانب أو مواطنين يقدم مخرجاً للأزمة التي أنشأها وعد بوش. وذلك على محمل أن الاستيطان رغم كونه من الحقائق التي وجدت بعد 1967، إلا أن ضم المستوطنات إلى إسرائيل ليس هو السبيل الوحيد للتعامل مع هذه الحقيقة.

ومن أجل تلمس تسوية التفافية للقضية، قد يوافق المفاوض الإسرائيلي على طرح كهذا، شريطة استثناء المستوطنين من بعض أركان السيادة الفلسطينية، وإلحاقهم بولاية إسرائيل، قانونياً (جنائياً) وسياسياً بصفة خاصة، وهنا ينبغي أن يقر في الذهن أن دولة فلسطينية محشوة بالمستوطنات الملحقة بسيادة إسرائيلية كاملة أو جزئية، ستعاني من ظروف أمنية ولوجيستية وقضائية شديدة التعقيد والإيذاء. سيكون الوضع عندئذ شبيهاً بزمن المحاكم والقضاء المختلط ذو الأبعاد العنصرية، الذي أخذت به الدول الاستعمارية في بعض مستعمراتها الآسيوية والأفريقية. ولا ضمانة في ظل هذا الوضع التمييزي الموثق لأن يتخلى المستوطنون عن نوازعهم ومركباتهم العدوانية التوسعية، مع اطمئنانهم إلي أنهم يمثلون جيباً إسرائيلياً يحظى بالحماية والمكانة المنفردة في جوف فلسطيني.

الإبقاء على المستوطنين كمقيمين أجانب أو مواطنين، يتبعون لولاية فلسطينية كاملة أو منقوصة، يثير التأمل في مسائل وجزئيات تستعصي على الحصر، منها مثلاً مسألة مصير الموارد التي استحوذ عليها هؤلاء إبان الاحتلال بالقوة، من أرض ومياه وعمران، فالمستوطنات تبسط سيطرتها على زهاء خمسين في المئة من الضفة، وأربعين في المئة من قطاع غزة. ومن المستحيل أن يقبل الفلسطينيون بديمومة هذه الوضعية. وقد يدعو للحنق أن تتوالى راهنا أنباء العروض والصفقات بشأن البنى العمرانية لمستوطنات غزة، من دون أن تتبعها ردود أفعال صارمة، فلسطينياً وعربياً وكذا من جهات حقوقية دولية، تفضح عدم أحقية إسرائيل في عقد بيوعات بهذا الخصوص. بل وتقصير أثمان هذه البنى عن تعويض الفلسطينيين، حتى إن غادرتها إسرائيل على حالها، وتجدر الإشارة إلى أن المستوطنات وتوابعها الجغرافية تحوي صناعات ملوثة للبيئة، أحالت الأرض الفلسطينية مكباً للنفايات الصلبة والسائلة. ما يستدعي النظر في هذه المسألة، لا سيما في حال الأخذ بإبقاء المستوطنات في الداخل الفلسطيني.

ومع أخذ بعض الفروقات في الاعتبار، فإنه يمكن الاسترشاد بالسابقة الجزائرية. فقد عرضت الثورة الجزائرية حلاً لمصير المستوطنين الأوروبيين يكاد يناظر ما نحن بصدد تأمله على الصعيد الفلسطيني، هو أن "كل الفرنسيين الراغبين في البقاء في الجزائر، سيكون لهم خيار الحفاظ على جنسيتهم مع اعتبارهم أجانب في نظر القانون، أو يسمح لهم باكتساب الجنسية الجزائرية بما لها وعليها من حقوق وواجبات". ولم تقر الثورة مبدأ ازدواج الجنسية للمستوطنين. كي لا يكون ذلك مدخلاً للتحايل لاستمرار الوضع الراهن. والملاحظ أنه يوم أضحى انتصار الثورة مؤكداً، عمد معظم المستوطنين إلى مغادرة الجزائر. وبعد توقيع اتفاقية إيفيان للاستقلال، نزحوا بشكل جماعي بنسبة لا تقل عن تسعين في المئة منهم.

يشي هذا المثل بأن المستوطنين الصهاينة سيؤثرون الرحيل إذا لم يكن لديهم خياراً غير الإقامة كأجانب أو مواطنين في فلسطين العتيدة. لكن المشكلة هنا أن لدى هؤلاء خيارات أخرى بالفعل، وأن الثورة الجزائرية كانت من الظفر والتمكن بحيث فرضت رؤيتها فرضاً. وليس في الأفق ثمة ما يوحي بتوفر هذا الشرط في السياق الفلسطيني. - (الحياة اللندنية 23 نيسان 2005)-