تتسارع الأحداث في فلسطين على مستويين سياسيين يؤثر كل منهما على الآخر ويسير كل في اتجاه معاكس له. فكلاهما له من الأهمية في صياغة مستقبل القضية الفلسطينية والأجيال القادمة شأن كبير. ويعرّف هذان المستويين سياسياً بالصراع الحقيقي والنزاع المصلحي.

فالصراع الحقيقي يهدد الوجود والهوية الفلسطينية والحقوق الطبيعية و التاريخية للشعب الفلسطيني. أما النزاع المصلحي فهو يهدد النسيج الوطني و الاجتماعي للفلسطينيين ويعمل على تفسيخه ليترك المجتمع متناحراً.

الصراع الحقيقي يتمثل في صراعنا مع العدو الإسرائيلي وتحرير الأرض والإنسان حتى الوصول إلى المطلب الأسمى والغاية القصوى للمشروع الوطني الفلسطيني بتحرير التراب الفلسطيني وإقامة الدولة وعاصمتها القدس. و كما هو معروف فإن لهذا الصراع أدواته التي يجب أن تتوفر في أية أمة أرادت التحرر و التي من بينها تماسك النسيج الوطني و الاجتماعي و لحمته ليشكل مرجعية تستند إليها المقاومة في تصويب أهدافها.

فحتى وقت قريب كان العقد الوطني بين الفصائل الفلسطينية هو المرجعية الأولى لعملهم وهو المحج الذي يضبط إليه كل تنظيم بوصلته السياسية و الوطنية. وبالرغم من أن الفصائل كانت تتعارض مع بعضها البعض بين الفينة و الأخرى بسبب أجندتها الداخلية إلا إن هذا التعارض لم يصل إلى حد التناقض المخل بالمشروع الوطني. . أما المستوى الاجتماعي فقد أصيب بجمود مؤقت نتيجة للسياسيات الإسرائيلية، إلا أن هذا الجمود والذي له أثر خطير على المجتمع الفلسطيني ساعد لحد ما مشروع المقاومة عن طريق وقف التكاثر البكتيري للفساد و المفسدين في السلطة الفلسطينية ولو لحين.

وكنتيجة منطقية لهذه الوحدة الوطنية كان الهروب الإسرائيلي هو ثمرة هذا النضال وهذا التناغم السياسي والوطني الذي طغى على عمل الفصائل و التي استطاعت تَبَصُر أهميته في أفق لوثته اتفاقات أمنية و سياسية.

أما النزاع المصلحي فقد قادته السلطة الفلسطينية ممثلة بأجهزتها الأمنية وبعض الأجنحة الفتحاوية التي تعمل بأجندة فئوية تعكس حالة التشرذم و التردي الذي وصلت إليه الحركة.

فقد كان هم قادة الأجهزة الأمنية هو التنازع على مصالحهم التي اكتسبوها خلال سني سيادة السلطة الفلسطينية و مصالح أخرى يحاولون اكتسابها كلما سنحت لهم فرصة الحراك الناتجة عن تخفيف إسرائيل من سياستها المفروضة على تحرك الأجهزة الأمنية. لذلك كان قادة الأجهزة الأمنية يلجأون للتناحر فيما بينهم و الاحتكام للغة السلاح لحسم خلافات أو قرارات سياسية يرفضونها أو لتحديد مناطق السيطرة. لذلك فإن النزاع المصلحي إما أن يكون سلطوي- سلطوي كنزاع الأجهزة الأمنية أو سلطوي-فصائلي كنزاع السلطة مع الفصائل المعارضة أو سلطوي وفصائلي – فصائلي كالنزاع بين السلطة وفتح من جهة مع حركة حماس من جهة أخرى أو فصائلي بحت بين الفصائل الفلسطينية أو بين أجنحة حركة فتح. وعليه، فإن هذه النزاعات هي التي تعمل على هدم المشروع الوطني الذي نسج من أحلام الشهداء وتعمل على تفسيخ المجتمع لتتركه متناحراً لا يسود فيه إلا قانون الغاب.

وما نراه الآن من تصارع تيارات حركة فتح وخصوصاً الاشتباكات الأخيرة بين أنصار السيد فاروق القدومي والسلطة الفلسطينية إنما يندرج ضمن النزاع الفصائلي البحت وإن كانت للسلطة طرفاً فيه إلا انه في الأساس نزاع على مواقع سيطرة في داخل الحركة وبين أزلام محمود عباس و القدومي الذي أنشأ جيشاً شعبياً للدفاع عن حركة فتح. وهي كمن ينشأ جيشاً للدفاع عن الجيش الذي بدوره يدافع عن جيش آخر!. إنه لمن المؤسف جداً أن ينقل الرجلان نزاعهما إلى الداخل الفلسطيني الذي يعاني أصلا من هذه النزاعات وأن يرفعا حدة التوتر من تصريحات كلامية إلى مصادمات مسلحة في قطاع غزة.

في النهاية إن من سيضيع بهجة نصر هروب إسرائيل من قطاع غزة وبعض مستوطنات الضفة الغربية وعملية البناء على هذا النصر وإيجاد إستراتيجية عمل وطني خلاق للمضي قدماً كأي أمة أخرى تخلصت بعض أجزائها من الاحتلال هو النزاع المصلحي الذي تقف على رأسه السلطة الفلسطينية ممثلة بأجهزتها الأمنية و حزبها الحاكم المتشرذم. وإن من سيحول طاقات المقاومة التي يجب تسخيرها في الصراع الحقيقي عن مشروعها الوطني وإيقاعها في فخ النزاع المصلحي هو أيضاً السلطة الوطنية و أجهزتها الأمنية و بعض أجنحة حركة فتح.

إن تصاعد الصدامات بين أجنحة حركة فتح و النزاعات بين أجهزة السلطة و الترويج للانفلات الامني خصوصاً في هذه الفترة لا يخدم المشروع الوطني الفلسطيني بل يعمل على تفسيخه و النسيج الاجتماعي وإثارة البلبلة والغوغاء و الذعر بين المواطنين وتعطيل بوصلة المقاومة عن الصراع الحقيقي التاريخي المرتبط بالإنسان الفلسطيني إلى نزاع مصالحي آني مرتبط بأشخاص ومناصب. - (الحقائق 11 آب 2005) -