توفرت لي الفرصة لمرافقة مجموعة من المراقبين الدوليين في الانتخابات المحلية، وفرصة الالتقاء بالعديد من الزوار الذين يحجون إلينا للتعرف على الوضع السياسي الفلسطيني الداخلي وعلى مستقبل الصراع مع إسرائيل وكنت دائما أثير السؤال التالي: ما هي الضمانات التي تقدم للجمهور لعدم العبث بنتائج الانتخابات؟ فالترتيبات التي رأيتها خلال الانتخابات الرئاسية والمحلية هنا أبعد من أن يكون لها مثيل إلا في بلدان العالم الثالث التي تتقدم ببطء وخوف على طريق الديمقراطية. في ألمانيا يقوم 10% من سكانها بانتخاب ممثليهم لمجالس الحكم المحلي بإرسال أسماء مرشحيهم بالبريد، وفي هولندا يتقدم المترشحون لجهة ما لا أذكر اسمها للحصول على التعيين في تنافس حر، حيث تعتبر عضوية المجلس المحلي وظيفة تتم بالتعين، وفي سائر البلدان الديمقراطية تنتهي الانتخابات عادة بقيام الفريق المنتصر بتهنئة الخاسر فيها دون إثارة الشكوك حول نزاهة العملية الديمقراطية وشرعية الفائزين فيها، ودون أن تتحول البلد إلى ميدان لحرب حقيقية كما في الجزائر، أو لحرب محتملة كما هو الحال في أماكن أخرى من العالم العربي .. والسبب في تقديري يعود لوجود ثقة بالنظام العام في هذه البلدان، بمعنى أن هنالك ثقة من قبل الأحزاب السياسية وجمهورها في النظام السياسي والقوانين التي تحكم العملية الديمقراطية.
في وضعنا الفلسطيني يحق لـ"حماس" التخوف من تأجيل الانتخابات التشريعية فقد كان مقررا لها أن تجرى في تموز، ثم أجلت إلى أجل غير مسمى، ثم جرى الحديث عن تعديلات جوهرية في القانون الأساسي لا تخدم العملية الديمقراطية في فلسطين بأي حال ولا أقصد هنا استحداث منصب نائب الرئيس وإنما التعديلات التي يطالب بها البعض والتي تصل إلى درجة إعطاء الرئيس صلاحيات بحل البرلمان الفلسطيني في حالة موافقة ثلث النواب على ذلك، أو على شاكلة إعطاء النواب الحق في اقتراح اسم رئيس الوزراء في حالة فشل مرشح الرئيس بالحصول على الثقة وهي جزء من مقترحات قدمتها اللجنة القانونية في المجلس التشريعي، نتائجها في حالة قبولها تشويه النظام السياسي الفلسطيني وإفقاد الجمهور الثقة فيه.
في رده على الموعد الذي حدده الرئيس عباس لإجراء الانتخابات التشريعية في كانون الثاني من العام المقبل أشار الزهار، القيادي في "حماس" في حديثه مع "الجزيرة" إلى قناعته بأن هذه الانتخابات لن تجرى لا في كانون الثاني ولا في شباط ولا حتى في آذار، لان الانتخابات كان مقررا لها أن تجرى في تموز، وأجلت دون أسباب معقولة. يحق للزهار إبداء هذه المخاوف بالتأكيد، وهي قطعا مشروعة ولها أساس أشار له الزهار في حديثة بان "فتح" تعاني من أزمة وتصدرها على مجمل النظام السياسي الفلسطيني لعلها بذلك تربح بعضا من الوقت يمكنها من حل أزمتها قبل الانتخابات، لكن الزهار أغفل مواضيع لا تقل أهمية عن أزمة "فتح" فهي ليست الوحيدة التي تتحكم في قرار إجراء الانتخابات في موعدها، ولدى الرئيس مخاوف مشروعة تفرض نفسها على قراراته في هذا الموضوع، منها.. بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة هل من حق أي تنظيم سياسي فلسطيني الاحتفاظ بجناحه المسلح فيها؟ وفي حالة "حماس" التي لديها على الأرض سلطة مسلحة موازية، فماذا ستفعل بها؟
"حماس" تؤكد أنها لن تستخدم إلا لمقاومة الاحتلال، لكن التجربة أثبتت بأن لديها الاستعداد أيضا لاستخدامها لكسر هيبة السلطة وإرادتها ما لم توافق السلطة على أسلوبها وجميعنا يذكر التجربة عندما حاولت السلطة منع إطلاق صواريخ القسام والنتائج التي أسفرت عنها المحاولة، والاهم من ذلك أيضا هل يمكن للعملية الديمقراطية أن تنضج في حالة عدم احتكار السلطة للسلاح ولمبدأ حقها بالانفراد في استخدام القوة، وهذا مبدأ عام لا يتعلق بالسلطة الفلسطينية وإنما بأية سلطة أخرى.
ستجادل "حماس" هنا بأن الحالة مختلفة في فلسطين، وهي بالفعل كذلك، لكن الحالة لن تكون مختلفة في غزة بعد شهر من الآن، بالتأكيد ستكون هنالك مناطق احتكاك مع الإسرائيليين لن تحل إلا ضمن اتفاق نهائي مع إسرائيل حول الانسحاب من الضفة والقدس، لكن هل تكفي نقاط الاحتكاك هذه في غزة لتبرير وجود سلطة مسلحة موازية. ستقول "حماس" طالما بقي الاحتلال في الضفة والقدس فإنها ستحتفظ بحقها بالرد على الانتهاكات الإسرائيلية، لكن هل ستقوم بالرد من غزة مثلا؟ وما هي نتائج ذلك على كل ما تخطط له السلطة سياسيا واقتصاديا لما بعد الانسحاب؟ مشروع السلطة واضح، انسحاب من غزة كجزء من خارطة الطريق ومقدمة لتنفيذها لتحقيق الانسحاب من باقي الوطن المحتل، وعشرات المشاريع بمئات الملايين من الدولارات لبنية تحتية ومشاريع استثمارية توفر عشرات الآلاف من فرص العمل لشعبنا في القطاع.
مبدأ العملية الديمقراطية هو الانتخابات لبيان حق الأغلبية في الحكم وبالتالي الحق في احتكار استخدام القوة، فهل توافق "حماس" على هذا المبدأ؟ موقف "حماس" معلن من ذلك، فالسلطة بالنسبة لها عبارة عن بلدية كبيرة تقدم خدمات للجمهور، ولا يجب تحميلها عبئا أكثر من ذلك، ولا يجب فهم السلطة بطريقة أخرى. من هنا تأتي مخاوف السلطة ومخاوف رئيسها من إجراء العملية الانتخابية قريبا، فإذا كان المقصود من الانتخابات هو مجرد تمثيل الجميع في المجلس التشريعي القادم دون أن يلتزم أي من أطراف العمل السياسي الفلسطيني بحق الأغلبية التي ستحكم، في احتكار السلاح وحقها بتنفيذ برنامجها السياسي المعلن وبالوسائل التي ترتئيها مناسبة، إذا ما هو مغزى الانتخابات؟ وما فائدتها؟ عدم حسم هذه القضايا هو ما يؤخر إجراء الانتخابات وليست "فتح" المأزومة وحدها.
"حماس" تدرك قبل غيرها أن أبومازن هو صاحب سياسة استيعابها داخل جسم الشرعية الفلسطينية، وهو الذي دفع باتجاه اتفاق القاهرة وأقنع الآخرين بجدوى الهدنة كبديل لسياسة نزع السلاح التي تقترحها خارطة الطريق، و"حماس" تدرك حجم الضغوط التي تمارس عليه، وبالتالي يجب أن تكون هنالك إجابات واضحة من "حماس" حول الأسئلة الأكثر أهمية، فهل ستقبل بسلطة واحدة وسلاح واحد وتعددية سياسية أم أنها تريد تعددية في كل شيء؟ بدون إجابات مقنعة يقبلها الطرف الآخر،لـ"حماس" كل الحق في أن تشكك في موعد الانتخابات القادمة، لان الرئيس منتخب وفق برنامج سياسي أعلنه للجمهور الفلسطيني ويريد لهذا البرنامج أن ينفذ وليس من المعقول أن يصادر تنظيم فلسطيني حقه في ذلك. - (الأيام 11 آب 2005) -