بينما ينشغل المحتفلون بالانسحاب مبكرا بنصب الزينات ورفع الرايات الصفراء والخضراء والسوداء والحمراء..!!
أجدني أقفز بفكري وعلمي الوحيد الذي استبق ماهية الألوان منذ البدء وأعبر فوق عواطفي المتواضعة الى الفكرة التي تلي السكرة..!!
غزة..تتجمل لبنيها وللعالم فرحا بالتخلص من مستوطنات كانت أشبه بالجذام ..وحواجز احتلالية داخلية لطالما جرعتنا القهر والإذلال .
غزة تستطيع الآن أن تتنفس الهواء ملء رئتيها وتستحم بماء البحر وقت تشاء وتسهر ليلها دون قصف ولو مؤقتا وتتجول في الاسواق الفقيرة متأبطة جراحا لاتمحي..
غزة ..ستكون قادرة أن تمد رجليها أكثر قليلا من القرفصاء التي استمرت منذ الانتفاضة الأولى. ولكن .. هل ستنجح غزة في الخروج من ذاكرتها وتنسى الزنازين التي تعتصر أحلام رام الله ونابلس وبيت لحم وجنين..؟!!
هل ستنسى اعتقال القدس الإداري دون محاكمة..؟!! هل تنجح في التخلص من رائحة الإسرائيليين وسحنات جنود جولاني الذين يتمركزون على التلال القريبة من بيت حانون ويتلصصون على أغاني الأطفال وهمهمات العشق..في المخيمات؟!!
هل تتكيف بسرعة مع جدار ثلاثي الكتروني مفخخ ومكهرب يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم عدا المعابر التي تغربل الفلسطينيين وتعريهم وراء بوابات فولاذية قبيحة مستوحاة من الفن النازي ولا تنتمي إلى همزة الوصل الإنسانية بين كل شعب وشعب ..؟!!
هل تستطيع غزة أن تتخلص من عبودية الكهرباء الإسرائيلية والاقتصاد الإسرائيلي وهي تفتقد القدرة على الفعل والتأثير في محيط يؤله القوة..؟!! أسئلة لا تنتهي..وإجابات..قلقة ..مهلهلة
لست متشائما بطبعي.. ولكني لا أستطيع أن أتفاءل إلى درجة الهبل بين كومة من مكعبات الاسمنت والأسلاك الشائكة لمجرد أنها زحزحت عن رقبتي قليلا . أخشى أن تتحول غزة إلى قن دجاج يتحكم فيه من الخارج جزار متمرس تتملكه شهوة القتل وتفتنه رائحة الدم الفلسطيني الطازج..ويتحكم فيه من الداخل ديكة تستعرض فحولتها وتفرض إراداتها وتتصارع بألوانها ..حتى تحين لحظة تساوي فيها السكين المتحفزة بين الرقاب..!!
إن الذين يأملون بالفوز في انتخابات تجري وفق مشيئة الاحتلال لن تستطيعوا أن يكونوا أكثر من ديوك تمارس ما مارس السابقين ولو حتى بشكل مغاير .. أخشى أن تنسى غزة التاريخ والجغرافيا في غمرة الاحتفال بانسحاب" دايت " يوسع قليلا..ويغلق أكثر بينما يتكرس الاحتلال في أمكنة أخرى برغم الشعارات الجميلة التي تزين الصدور الساذجة..!! إن الأمر كله لا يستحق أكثر مما يستحق..
لست ضد الاحتفال ولكني ضد المبالغة التي تجعلنا أصغر وأتفه على شاشات الفضائيات وتخجلنا أمام عيون شهدائنا التي تطل علينا من عل مستهجنة..!! يجب أن نحتفل بمهابة وحزن مقدس على الأقل احتراما لجراحنا وتحسبا من القادم.. فنحن شعب لم يعان مثله أي شعب آخر فقدا ونفيا وحزنا .
الحقائق (15/8/2005).