أثارت المواقف النارية التي طرحها د.محمود الزهار في خطاب امام فوج المتدربين القساميين شكاً عميقاً حول التقارب السياسي بين الفصائل، وشوشت كل الحديث السابق عن تقليص الفجوات السياسية، وتوحيد المفاهيم حول تبادل السلطة، واعتدال حركة حماس. وكانت المفاجأة عندما لم يتعرض د. الزهار لنقطة التقاء واحدة بين ألوان الطيف الوطني مقابل تركيزه على نقاط خلاف جوهرية يصعب جسرها، بل إنه، ويا للاسف، شكك في طهارة سلاح الآخرين، وتبنى تحرير القطاع منفرداً. وألمح في الوقت ذاته الى التفرد بالسيطرة، والتفرد بالاحتفال دون انتظار الاذن من أحد.
ولم يخل الخطاب من تهديد للآخرين حين تمنى "ان لا يذوق بأس القساميين غير اليهود" .ان ما طرحه د. الزهار جد خطير لأنه قد يقود الامور الى انقسام وصراع داخلي لا تحمد عقباه، أقله إضعاف التماسك الفلسطيني في مواجهة الاطماع والتهديدات الخارجية. وهذا الخطر المحتمل يطرح ضرورة إعلاء الحوار العلني والمحاججة الصريحة على حوار الصالونات والغرف المغلقة والمجاملات وتعويم المواقف. حوار يحتكم للرأي العام لا بصفته ملحقاً بل بوصفه شريكاً، يساهم في جسر الهوات وفي بناء المواقف والسياسات والبرامج، حوار يقوم على حساب المصالح العامة والمشتركة في مواجهة المصالح الانانية الفردية والفئوية الضيقة. وحوار يعتمد على تقديم حجة في مقابل حجة، وتلمس الموقف الاقرب للصحة بعيداً عن الاعتقاد بامتلاك الحقيقة كاملة غير منقوصة.
قضيتان جديرتان بالحوار كانتا محور حديث د. الزهار، القضية الاولى سياسية برنامجية، وهي التي برزت في دعوته لتحرير كامل فلسطين من البحر الى النهر. وهذا الموقف البرنامجي يختلف تماماً مع الموقف السياسي المعتمد من المجالس الوطنية الفلسطينية منذ العام 74 وحتى الآن، والذي يستند لقرارات الشرعية الدولية، التي تسمح للشعب الفلسطيني بتقرير مصيره واقامة دولته المستقلة على الاراضي المحتلة منذ العام 67، وحل قضية اللاجئين بتطبيق قرار 194. ثمة فرق جوهري بين برنامج واقعي يلبي الحد الادنى من الحقوق الوطنية المشروعة للشعب، ويكون مؤيداً ومدعوماً من المجتمع الدولي والرأي العام العالمي وجزءاً من الرأي العام الاسرائيلي ، وهو بهذا المعنى برنامج قابل للتحقيق، وبين برنامج غير واقعي يقود الى عزل نضال الشعب الفلسطيني عن العالم، ويعطي اسرائيل فرصة لمواصلة حرب التدمير والاقتلاع والتهجير بجريرة ان ذلك البرنامج يطرح تدمير دولة اسرائيل. إنه وبمعزل عن الاقتناع او عدم الاقتناع بالشرعية والقانون الدولي وكل المسوغات الدولية التي تعطي اسرائيل حق الوجود، فان طرح برنامج يدعو الى تدمير اسرائيل، سيؤدي، شئنا ام ابينا، الى تدمير الشعب الفلسطيني من قبل اسرائيل التي تملك القوة والقدرة وفي شروط النظام العالمي الجديد، في حين ان اصحاب برنامج التدمير لا يملكون لا القوة ولا القدرة ولا حتى الحماية والشرعية. لهذا السبب فان طرح هذا الموقف يقع في باب المغامرة التي تقود الى التصفية بصرف النظر عن النوايا الحسنة والمخلصة. لقد حاولت "حماس" حل التناقض في برنامجها ، من خلال ابداء الاستعداد لقبول هدنة طويلة الامد، وإبداء الاستعداد للمشاركة في اقامة دولة فلسطينية، ولكن من موقعها كمعارضة غير ملزمة باستحقاقات الدولة، وفي مقدمتها الاعتراف بدولة اسرائيل كشرط لا مندوحة منه لقبول العالم بالدولة الفلسطينية. وجاءت موافقة "حماس" على اتفاق القاهرة والتهدئة والمشاركة في الانتخابات المحلية والاستعداد للمشاركة في الانتخابات التشريعية، وذلك كترجمة عملية لا تقبل التأويل لحل التناقض المذكور. غير ان "حماس" لم تحسم امرها فبقي موقفها مزدوجا يتعاطى بموقف واقعي مغطى بموقف السلطة والمنظمة، وموقف راديكالي برسم المزاج الجماهيري والشعبوي والتحالفات الاسلامية الداعمة مادياً ومعنوياً. وفي هذه الحالة فان "حماس" تقبض الثمن مرتين ولا تدفع شيئا. الآن ونحن على ابواب التعاطي مع خارطة الطريق التي تشترط الدفع مسبقاً، وكذلك على ابواب التعاطي مع الانتخابات التشريعية التي تشترط تحديد موقف صريح لا لبس فيه من الحل السياسي وخاصة اذا ما نجحت "حماس" في الوصول الى سدة الحكم او حتى المشاركة الفاعلة في السلطة. لم يعد الموقف المزدوج ممكناً، ولم تعد سياسة تقسيم الادوار في مواقف القيادة بين التطرف والاعتدال ممكنة، إلا في حالة انكفاء "حماس" وذهابها الى هامش المشهد السياسي. اصبحت "حماس" الصاعدة وجهاً لوجه امام استحقاق تحديد موقف صريح لا لبس فيه، هل هي مع الحل السياسي (دولتين لشعبين)، ام مع الحل السياسي (دولة لشعب واحد)؟ .
القضية الثانية التي لا تقل اهمية في اطروحات د. الزهار هي ازدواجية السلطة، وقد كان واضحا بما فيه الكفاية في رفضه احادية السلطة المقترن برفضه وجود سلاح واحد. قال د. الزهار "لن نسلم السلاح بل ان المطالبة بتسليم السلاح يعد جريمة" واضاف "هذا السلاح وحده سيدخل نتساريم" وختم بتصعيد غير مسبوق"من المستحيل ان نتخلى عن سلاحنا حتى لو قتلنا جميعاً". وبالطبع فان مبرر التمسك الحازم بالسلاح هو تحويل كل الشعب الى مجاهدين من اجل تحرير فلسطين من البحر الى النهر. وفي هذا التحديد يبدو د.الزهار منسجماً ومنطقياً في طرحه، ذلك ان برنامج التحرير من البحر الى النهر يتطلب الاحتفاظ بالسلاح وتطويره ليصبح اضعاف ما هو عليه. لكن الوضع لا يقتصر عند هذا الحد بوجود اطراف تتبنى برنامجاً آخر يكتفي بما أقرته الشرعية الدولية، أي برنامج دولة فلسطينية في حدود العام 67. وهذه الاطراف فازت بانتخابات الرئاسة استناداً لهذا البرنامج، وما زالت في موقع السلطة الشرعية التي اتت بالانتخاب، وهي تستعد ايضا لخوض الانتخابات في كانون الثاني القادم، وهي ايضا في موقع قيادة منظمة يعترف بها العالم كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وما زالت تمثل الشعب في كافة المحافل الدولية والعربية والاسلامية. إن موقف "حماس" كما عبر عنه د. الزهار لا يمت الى الديمقراطية بصلة، لأن المشاركة في الانتخابات تعني المنافسة على تسلم السلطة ومن يستلم السلطة عبر صناديق الاقتراع من حقه ان يترجم برنامجه الذي فاز على اساسه بعد ان تحول الى برنامج مؤيد من اكثرية الشعب. ونكون ازاء سلطة واحدة لا سلطات بانتظار انتخابات قادمة. وعندما يكون لدينا سلطة واحدة فمن المنطقي ان نحتكم لمنظومة قوانين واحدة، ولسلاح واحد. وكان يمكن التعاطي مع استثناء سلاح المقاومة في حالة بقاء الاحتلال وبعد اخفاق المسعى الدولي الراهن في ايجاد الحل السياسي المسمى خارطة الطريق. اما وأن الاحتلال آيل الى الزوال من غزة، وبوجود هدنة في المناطق الاخرى فان وجود اكثر من سلاح في غزة الخالية من الاحتلال لا معنى له. ولكن قد يقول البعض ان احتلال الضفة ما زال قائما وان السلاح في غزة سيدعم ويآزر المعركة على الضفة. سيكون الرد على ذلك بالقول ان السلاح البدائي والمتواضع الذي تستخدمه المقاومة من غزة ستكون مضار الرد الاسرائيلي عليه اضعاف المضار التي ستلحق بالاسرائيليين وربما تكون النتائج وخيمة ومدمرة. وهذا النوع من المواجهة يختلف عن شكل المواجهة مع الاحتلال داخل قطاع غزة.
وقد يقول البعض ايضا ربما تقوم اسرائيل باعادة احتلال القطاع وبالتالي فان استمرار وجود السلاح له ما يبرره. في هذه الحالة لماذا لا يكون الرد من خلال الجيش او الحرس الوطني الذي يتكون من جميع المقاومين السابقين والذي سيكون بإمرة السلطة المنتخبة وتحت رقابة المجلس التشريعي المنتخب. بعد ذلك لا يبقى أي مبرر لبقاء السلاح الا لدعم ازدواجية السلطة، فالسلاح بدون مقاومة يستخدم فقط لدعم سلطة داخل السلطة، وهذه السلطة المسلحة "لن تسمح لاي لص ان يمد يده على شبر من الارض المحررة واذا مدت ستبترها" هذه السلطة المسلحة "ستحتفل كما يحلو لها ولن تأخذ اذناً من السلطة الشرعية" وهذه السلطة تهدد "بان لا يذوق بأس مقاتليها غير اليهود". والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا تطالب "حماس" بالانتخابات طالما انها تود حسم السيطرة على السلطة بالقوة ؟ واذا ما سيطرت على السلطة بالانتخاب وعبر صناديق الاقتراع، هل تسمح بوجود سلطة اخرى، وسلاح آخر، ومليشيات اخرى، وردود فصائلية على الانتهاكات الاسرائيلية؟ الاجابة على ذلك لا ، لأنه لا توجد سلطة في العالم تقبل بازدواجية السلطة . فالى متى تتعامل "حماس" بازدواجية البرنامج وازدواجية السلطة؟