حتى الآن, لا نفهم إن كان الفلسطينيون يدركون حقاً, حجم المؤامرة التي يحيكها لهم شارون و جنرالاته, في القدس العربية المحتلة, و باقي الأراضي الفلسطينية, أم لا ؟! كي تنطلي عليهم أكذوبة القرن الحادي و العشرين, بأن القاتل في صبرا و شاتيلا و جنين, و رب الاستيطان البغيض, و السفاح الذي تعود على قتلنا كل صباح و مساء, قد تحول بقدرةِ قادر, إلى يمامةٍ وديعة جنحت للسلام ! أو ربما أننا قد تخيلنا عبثاً, أن الصواريخ محلية الصنع, الطائرة من مدننا و مخيماتنا , هي وحدها و ليس إياها ! التي أرغمت إسرائيل, على الرحيل عن قطاع غزة, و تركه كي يكون نواةً للدولة الفلسطينية المستقلة !
يبدو أن بعضنا قد صار يفكر, كما لم يتبق همٌ سوى ذلك, بكيفية إبراز دوره في الانتصار, و إلحاق الهزيمة بإسرائيل, غير مكترثين إلا بإقامة المهرجانات, و تسيير المسيرات الهاتفة لفتح مكة, و عرض التشكيلات العسكرية, التي حررت وحدها قطاع غزة, و خلصته من براثن الطغيان الإسرائيلي, حتى انقشع الاحتلال عن هذا الشريط الساحلي المكتظ بالسكان ! لنكتشف حجم البؤس السياسي الذي يسيطر على كل مدعيي البطولة و العنفوان, بعد أن أعماهم فُتات غزة, فباتوا يستفتون في الأنفال و كيفية تقسيمها, و البحث في مآلاتها, بحيث لا تذهب الغنائم إلى أحدٍ من قبيلة بني فسدان, متناسين حجم الزاوية, التي سنجد أنفسنا محشورين فيها, كسلطةٍ و شعبٍ و فصائل عما قريب ! عندما نرى أن الضفة الفلسطينية قد وقعت أسيرةً للجنون الشاروني الاستيطاني و ربما الدموي, و يكون جدار الفصل العنصري قد اكتمل بناؤه, و ضاعت معه أقدس بقاع الأرض, التي سيعمد المحتلون على إفراغها من السكان, تحت حججٍ و تعليلاتٍ واهية, فيما سيكون المسجد الأقصى المبارك, تحت رحمةِ قطعان المستوطنين المتطرفين, الذين يهددون باقتحامه كل يوم, و يبنون الآن حياً استيطانياً إلى جواره في أحد الأحياء العربية, تحت حراسةٍ إسرائيليةٍ رسمية, في الوقت الذي تعمل فيه حكومة الاحتلال الإسرائيلي, على تسمين مستوطنات الضفة, على حساب التاريخ و الجغرافيا الفلسطينية.
مخططاتٌ كثيرةٌ و متنوعة, تلك التي تعدها إسرائيل لتنفيذها, في القدس المحتلة و الضفة الفلسطينية, و الجليل و النقب, و عموم أراضي الـ48, الأمر الذي يتطلب عملاً منظماً منهم, و دون أي معيقاتٍ حقيقة, لذا كانت غزة للفلسطينيين, من باب التخلص من عبءٍ كبير, و كذاك للإلهاء و تخدير المشاعر الفلسطينية و العربية, بوهم النصر, الذي أوجع تل أبيب, كما يصور ذلك المحتالون, في تغطيتهم فعاليات تصدي المستوطنين الكذوبين لقرار الإخلاء, بتمثيلهم دور المقهور على اقتلاعه من أرضه !
لعل المسألة تتطلب إعادة ترتيب حسابات و أولويات عندنا, تفوق حسابات المصالح الفئوية و الفصائلية, بحيث لا يكون إخلاء قطاع غزة, أكثر من منجزٍ وطني يستحق التعبير عن الفرحة دونما بهرجة, في إطار توصيفٍ حقيقي, على أنه انتصار موضعي, في بقعةٍ صغيرة, تحتاج هي الأخرى إلى عملٍ دءوب, من أجل فك أغلالها بالكامل, من قيود سلطات الدولة الاحتلالية, و خلق قاعدةٍ مشتركه تجمعها مع الضفة الغربية, بحيث يبقى الحديث في أي تسويةٍ مستقبلية أو مصيرٍ قادم, عن الأراضي التي احتلت عام 67م و ليس عن القطاع دون الضفة أو العكس.
إن إسرائيل تحاول من خلال استقطاب الإعلام, للمراوحة فيما تقول في ضوء الانسحاب, إلى تسويق فكرة حلٍ جزئيٍ كبيرٍ من الصراع, بخطواتٍ إسرائيليةٍ مؤلمة جاءت على حساب مواطنيها و مستوطنيها ! و تعمل على شغل العالم الآن في صور المستوطنين و هم يرحلون, و صور الفلسطينيين و هم يدخلون و يستخدمون المستوطنات, و يؤسسون حياةً غير التي كانت في غزة عما قريب, لتصبح القضيةُ محصورةً في المشهدين, و بالتالي تبدأ مساعي العالم من جديد, من أجل إعادة العملية السلمية إلى مسارها, و إحيائها بعد ما أبدت إسرائيل من كرمٍ حاتمي, و تمسي تفاصيل الحكاية و الوطن في إعادة تشغيل مطار غزة الدولي, و حركة المعابر و الميناء و حركة التجارة و غيرها, فتمسك إسرائيل بطرفي الخيط تتجاذبنا, و نضيع في القضايا الحياتية اليومية, بينما يستكمل المحتلون مشروعهم, و ينفذون مخططاتهم في القدس و الضفة الفلسطينية.
لذا, يجب على كل من يعتبرون أنفسهم, شركاءً في هذا النصر الموضعي, ألا ينجرفوا ليرددوا ما تقوله إسرائيل, بحيث لا نرى كما رأينا قبل يومين, صور المستوطنين يتباكون كذباً و هم يرابطون في كنيسٍ لهم, و صوراً في نفس الدقيقة على شاشةٍ أخرى لاستعراضٍ عسكري زائد لأحد فصائلنا في القطاع, كما يجب على قادة هذه الفصائل أن يعوا حجم المأزق الذي بتنا فيه بحكم الواقع, الأمر الذي يتطلب إعطاء الساسة فرصتهم للمناورة, و كشف النوايا الإسرائيلة.
مفتاح (22/5/2005).