لم يعد التمويه ممكنا في السياسة كما هو الحال في الامن والاقتصاد. كل الاشياء اصبحت مكشوفة للناس في عالم الثورة الرقمية والاتصالية . بناء على ذلك يسهل استعراض وقراءة الاستراتيجية الاسرائيلية للمرحلة الراهنة. لكن الاستعراض والقراءة لا يكتسبان قيمتهما إلا بوضع استراتيجية اخرى، وخاصة في ظل محاولة اسرائيل اقصاء الشعب الفلسطيني ومنعه من حقه المشروع في تقرير مصيره، ومحاولة فرض الحل السياسي عليه، كانعكاس لميزان القوى العسكري، خلافا لما كان يحدث بين دول استعمارية وشعوب مستعمرة. ويمكن اختصار الاستراتيجية الاسرائيلية بالآتي: الانسحاب من قطاع غزة لتفادي الخطر الديمغرافي بعد ان اصبح عدد اليهود 49% من العدد الاجمالي للسكان من النهر الى البحر، والانسحاب من القطاع يسقط مليون و400 الف مواطن فلسطيني من التعداد الكلي للسكان ويرجح الكفة الاسرائيلية مرة اخرى ولمدى زمني متوسط. وتأتي إعادة غزة من اجل تعزيز المستعمرات في الضفة الغربية وضم اكبر مساحة ممكنة واقل عدد من المواطنين العرب، المساحة المرشحة للضم وفق المواصفات المذكورة هي 58% من اراضي الضفة الغربية التي تضم الكتل الاستيطانية والقدس الكبرى وغور الاردن وشبكة الطرق التي تربطها مع بعض ومع اسرائيل، اضافة للمناطق الاستراتيجية الامنية . وعزل التجمعات الفلسطينية بسور فصل عنصري يحولها الى أسوأ من بنتوستانات جنوب افريقيا سيئة السمعة. والحل كما نلاحظ من طرف واحد بدون شراكة وبدون مفاوضات، لأن الشراكة والمفاوضات لهما استحقاقات إقامة دولة فلسطينية، وهي اعلى بكثير من سقف الحل المفروض من طرف واحد. وتتذرع حكومة شارون وهي ترفض الشراكة بضعف السلطة وعدم قيامها باصلاحات عميقة. في الوقت الذي تواصل فيه إضعاف السلطة ولا تمكنها من القيام بالاصلاحات. وفي مجال الذرائع تتمسك حكومة شارون بمطلب تصفية البنية التحتية "للارهاب" ووقف التحريض ضد اسرائيل، والمقصود هنا وقف التحريض ضد الاحتلال الاسرائيلي. وتراهن اسرائيل على اقتتال فلسطيني لتبرهن للعالم ان الشعب الفلسطيني لا يستحق دولة وهو غير مؤهل للمشاركة في الحلول السياسية، ولا يستحق غير الحل المفروض والفصل العنصري. وستستغل الحكومة الاسرائيلية احتياجات قطاع غزة لفتح المطار وبناء الميناء والسيطرة على المعابر وحرية الحركة من والى قطاع غزة الى ابعد الحدود، وستحاول " مطمطة" الاتفاق حولها لاطول فترة ممكنة، بهدف اشغال الشعب والسلطة والمعارضة بهذه الاحتياجات، وصرف انظارهم عما يجري على ارض الضفة والقدس. وعلى الصعيد الداخلي الاسرائيلي فقد وضعت حكومة شارون مهمات محددة. إعادة توطين المستوطنين المنكوبين المقتلعين من "ديارهم". ومداواة الجروح والشروخ في نسيج المجتمع الاسرائيلي الناجمة عن الاقتلاع. والبدء بمصالحة وترضيات وتعهدات بعدم تكرار أي فعل "المقصود أي انسحاب اضافي واي تفكيك اضافي لمستعمرات اخرى" من شأنه تهديد الوحدة المجتمعية. وهذا يطرح مهمة المصالحة والوحدة كمهمة اولى في الاجندة الاسرائيلية للمرحلة القادمة وعلى المدى الزمني المتوسط على اقل تقدير. ولا تستبعد حكومة شارون من اجندتها جني الارباح ومعاظمتها. فهي وكما تقول بحاجة الى ملياري دولار لتغطية نفقات الانسحاب وتعويض المستوطنين، وبحاجة لمبالغ اضافية من اجل استيعابهم. وبحاجة لمزيد من الاستثمارات، ولمزيد من الانفتاح والتعاون والتطبيع مع الدول العربية والاسلامية. ان اسرائيل تصنع حلاً على هواها، فقد وضعت خارطة الطريق جانبا، واستبدلتها بخطة الفصل، ولم تعد ترى من الخارطة غير "تفكيك بنية الارهاب وجمع السلاح الفلسطيني". وألغت اسرائيل التفاوض بين قطبي الصراع الفلسطيني الاسرائيلي على اساس الشرعية الدولية والقانون الدولي، وحولته الى تفاوض داخلي اسرائيلي على اساس المصالح الاسرائيلية الخالصة ومن وجهة نظر المؤسسة الامنية والعسكرية واطماعها الكولونيالية الفاقعة. واستبدلت اسرائيل الشارونية هدف السلام والمصالحة مع الشعب الفلسطيني والدول العربية، بهدف التوسع والسيطرة وفرض سياسة الامر الواقع ومن خلال غطرسة القوة. لقد فتح الانسحاب من قطاع غزة الباب امام فرصة التوصل الى حل سياسي ينهي الاحتلال والاستيطان، حل يقبل به الشعب الفلسطيني ويدافع عنه . لكن اسرائيل تحاول الآن إيصاد الباب وقطع الطريق على هذه الفسحة من الامل. وإغلاق الباب في هذه المرة يقود حتما الى انتاج المزيد من الاحباط واليأس والكراهية وتجديد دورة العنف وتغذية التطرف اكثر من المرات السابقة. المحاولة الاسرائيلية لأحباط الحل متوقعة، فلا تملك اسرائيل في ظل بنيتها الامنية وايديولوجيتها التعصبية القدرة على صناعة الحل الطوعي لها وللشعب المنكوب بيديها كما فعل الاستعمار في غابر الزمان. كانت اسرائيل ترفض فكرة الحل وتخافها الى حد "الرهاب". صارت اسرائيل تقاوم تطبيق الفكرة وتقضي عليها في المهد. هذا ما توصلت اليه لجان تقصي الحقائق اثناء الانتفاضة الثانية، وحاولت "الرباعية الدولية" تداركه في خارطة الطريق من خلال المؤتمر الدولي والتدخلات المباشرة وبرمجة الحل ضمن تواريخ محددة ، إلا ان اسرائيل نجحت في إقصاء ذلك التدخل مرة اخرى وعادت الى الاستفراد في رسم الحل الذي تريده وبمساعدة اميركية ايضا.
لا امل بالحل السياسي المقبول، طالما بقيت اسرائيل تملك زمام المبادرة السياسية ، والفعل السياسي والتفرد والتحكم بالجدول الزمني. هل يمكن للشعب الفلسطيني بكل مكوناته السياسية التزام سياسة رد الفعل وانتظار ما تقبل به اسرائيل وما لا تقبل به؟. بمعنى آخر لماذا لا نملك اجندة خاصة ولا نقدم مبادرات سياسية هجومية واعتراضية، تضع كل الاطراف وجها لوجه امام دورها. فاذا كان الاستقرار والهدوء والتعايش في هذه المنطقة يتفق مع مصالح شعوب المنطقة ومع المصلحة الدولية، فان ترك زمام المبادرة بيد اسرائيل يتناقض مع تلك المصالح ويهددها. لماذا تسمح "الرباعية الدولية" لاسرائيل بتقويض مقومات الدولة الفلسطينية على الارض وتقبل ان تكون خارطة الطريق بلا مضمون؟. ان جدار الفصل العنصري يشكل نقيضا للخارطة ورغم ذلك يسمح لاسرائيل بوضع شرط ( تفكيك بنية "الارهاب" وجمع السلاح).كما ورد في الخارطة ولا يطرح ازالة جدار الفصل العنصري ووقف البناء في المستعمرات الذي بلغت الزيادة فيه 84% ، وإزالة البؤر الاستيطانية المئة وعشر المتناقضة مع بنود خارطة الطريق التي تنص على وقف الاستيطان وقفا تاماً بما في ذلك النمو الطبيعي .
هل ستبقى مبادرة السلام العربية حبرا على ورق؟، ولماذا لا تطرح ضمن آلية للعمل العربي المشترك، ولا يستنبط منها الرد على السياسة الاسرائيلية التي تقوض بنودها وتجعلها بلا معنى؟والى متى سيتوحد الاسرائيليون حول خطة شارون ونظام الفصل العنصري الذي يجعلهم متهمين بالعنصرية والكولونيالية والاستبداد؟ ولماذا لا توضع سياسة فلسطينية قادرة على الاستقطاب والعمل المشترك مع كل الاسرائيليين المناهضين للاحتلال والفصل العنصري؟. ان تحريك العامل الدولي والعامل العربي والعامل الاسرائيلي يرتبط اوثق ارتباط بتفعيل العامل الفلسطيني وانتقاله الى طور المبادرة. والعامل الفلسطيني يملك الآن منصة للانطلاق، هي فشل واندحار الاحتلال والاستيطان من قطاع غزة. فهل يمكن ايجاد ديناميكية لتحويل الانسحاب الاسرائيلي العسكري والاستيطاني من غزة الى انسحاب الاحتلال والاستيطان من الضفة الغربية؟الاحتلال والاستيطان في مأزق. والشعب الفلسطيني يحظى بتأييد وتعاطف شعوب الارض المناهضة للحرب والهيمنة والاحتلال والتسلط. وهو يملك ان يواصل نضاله من اجل الحرية بزخم متعاظم، اذا ما انتقل الى المبادرة وتسلح بسياسة واقعية حازمة، توحد العوامل العالمية والعربية والاسرائيلية (المناهضة للاحتلال) والفلسطينية. حتى الآن توجد استراتيجية واحدة هي الاستراتيجية الاسرائيلية ولا مبرر لاستمرار غياب استراتيجية فلسطينية، حتى الآن ننشغل بالاحتفال وبتوسيع النفوذ واحتكار الانجاز، ولا ننشغل بحوار عميق حول الاولويات والاجندة او الاستراتيجية التي تفعل طاقات الشعب وتساعده في الخلاص النهائي من الاحتلال والاستيطان. - (الأيام 23 آب 2005) -