بالمقاييس. المثالية والموضوعية، فإن ما حدث في غزة هو انجاز تاريخي، بكل ما للكلمة من معنى. فمن كان يتوقع انسحابا عسكريا واستيطانيا شاملا في عهد أرئيل شارون، «المرعب .. عسكريا واستيطانيا كذلك».
غير ان التباين الفلسطيني، في فهم ما حدث وكيفية التعاطي معه، ربما يؤدي ليس فقط الى إضعاف الإنجاز، وإنما إلى التحول لعكسه، خاصة وان من لا يزال يمسك بزمام المبادرة هو أرئيل شارون. وفي حال إفلاته من يده فسيمسك به من هو اكثر تشددا وإثارة للمخاوف اي بنيامين نتنياهو. لقد بالغ الفلسطينيون في الزهو بالإنجاز، وفي ذات الوقت بالغوا في التخويف منه، وهذه اشكالية اثارت مزيدا من الحذر في غزة ومزيدا من الخوف في الضفة والحذر في غزة له ما يبرره ويغذيه، من خلال طرق الاحتفال وعرض البرامج والسياسات لما بعد الانسحاب، فحماس ترى ان استمرار العمل الجهادي هو الضمان الوحيد ـ ربما ـ لتحقيق انسحاب مماثل من الضفة. بينما ابو مازن، يرى ان الجهاد الاصغر اي الكفاح المسلح قد انتهى وان الجهاد الاكبر، اي اعادة البناء والتطوير والتأسيس للدولة قد بدأ. في مسألة كهذه يصعب التوصل الى حل وسط، ذلك ان اي اعمال عسكرية يمكن ان تنطلق من غزة بعد الانسحاب، سيجعل من الجهاد الاكبر ـ مجرد حلم مستحيل، خاصة وان احد اهم شروط هذا الجهاد هو الاستقرار. وخلق المشجعات المقنعة لدول العالم لدعم مشروع ابو مازن الذي يرى في التنمية اولوية قصوى، تجند أنصارا فاعلين لإقامة دولة، وذلك على عكس العنف الذي يملك قدرات سحرية على الاطاحة بأي جهد سياسي وتنموي.
وهنا.. لا بد من القاء نظرة على الطرف الآخر الذي هو اسرائيل. فإذا كانت الدولة العبرية قد قررت الانسحاب من غزة وبهذه الكيفية ـ غير المتوقعة ـ من اجل تثبيت برنامجها المعلن بشأن الضفة فإن أول ما ستفعل بعد الانسحاب، هو العمل وبقوة، من اجل اقناع العالم ـ السعيد بخطواتها النوعية، بأن الفلسطينيين غير جديرين بهذه المبادرة «المباركة».. وستجد في حالة الفوضى الفلسطينية ـ المعتادة ـ مناخا لتثبيت هذا التوجه، بل وستجد فيه عشرات الثغرات المجانية التي ستعفيها من أي جهد لتجنيد قوى دولية ضد الفلسطينيين وتطلعاتهم. ولو قرأ الفلسطينيون ـ بوعي ـ هذا التوجه الاسرائيلي فإنهم سيكتشفون حاجتهم الى تغيير كبير في الخطاب والسلوك انهم بحاجة الى اظهار اتفاقهم على سياسة محمود عباس. واضعين في الاعتبار ان معركة غزة التي حسمت لمصلحتهم هي مقدمة تكتيكية لمعركة الضفة التي بدأت واحدة من اخطر مراحلها، بل انها المرحلة المصيرية والنهائية. وفي معارك من هذا النوع ـ فإن كل طرف سيحشد ما يستطيع من أوراق لكسبها .. ومما سيزيد الامور تعقيدا، هو اختلاف طبيعة وفاعلية الاوراق التي يملكها كل طرف، مما يجعل المقايضات والمساومات المحتملة أكثر تعقيدا وصعوبة. فاوراق الفلسطينيين جميعا، هي من النوع الاخلاقي والمعنوي والحقوقي بينما اوراق الاسرائيليين من النوع العسكري والاستيطاني والاقتصادي انه بالضبط صراع بين المعنوي والمادي، وهذا النوع من الصراع يتطلب دهاء في ممارسة السياسة، وبالنسبة للفلسطينيين، فإن الامر لم يعد يحتمل خطا واحدا في التحليل والسلوك. في معركة الضفة ـ حيث كل سنتميتر من الارض له في المعتقدات الاسرائيلية جذور وقداسات ورزم من الخطوط الحمراء.
يتعين على الفلسطينيين ان يشهروا سلاح الذكاء وهو سلاح ذو مضمون بالغ الفاعلية والتأثير ان احسنوا استخدامه وتوزيع الادوار فيه، دون ان يلغي اسلوب ما مزايا الاسلوب الآخر. وسلاح الذكاء يتطلب منطقية في الخطاب ورصانة في السلوك، ومنطقية الخطاب تتطلب عدم الامساك بنقيضين في جملة واحدة. وهنا اوجه رسالتي الى حركة حماس .. التي سعدنا بدخولها المتحمس معركة الانتخابات المحلية والبرلمانية، دون ان نفهم كيف يمكن للانتخابات ان تتم وتحقق الغرض المرجو منها، مع لغة عسكرية شديدة الوضوح واحيانا شديدة المبالغة. لم لا نجرب، نقل الكرة الى المرمى الاسرائيلي بمعنى ـ ان الصبغة العسكرية لاسرائيل وعنجهية ضباطها، اما الصبغة الحضارية والديمقراطية والتنموية فهي لنا وعلى العالم ان يأتي لدعمنا في هذا الاتجاه.ان اخواننا في حماس انتزعوا بجدارة، دور الشريك الوطني، ولا نريد لهذا الدور ان يحترق بالمبالغة في استخدامه، بما يتجاوز الحد الفاصل بين الشريك والبديل وفي ساحة مكتظة بالاجندات والبرامج والرهانات والحقائق والاوهام، فإن حركة حماس، تملك ميزة ـ ربما لا يملكها غيرها من الفصائل والقوى... الا وهي ـ الانضباط الذي ان لم يكن كاملا بنسبة مائة بالمائة. فإنه بعيد عن الفوضى، وهذا الانضباط يشجع على اعتبار حماس، حال اتقانها دور الشريك، ركيزة مهمة من ركائز العمل الوطني بحاضنته الكبرى منظمة التحرير وأداته الفاعلة والمعترف بها «السلطة الوطنية». واذا كانت حماس ـ تزهو ـ بما فعلت في غزة فعليها ان توضح ما ستفعل في الضفة مع قراءة الفوارق الجوهرية بين الساحتين اللتين هما بالمحصلة ارض الدولة الواحدة. ولو قرأت حماس بموضوعية ردود الافعال لما حدث والتفاوت الظاهر بين الضفة وغزة في هذا المجال، واظنها ستفعل ان لم تكن قد فعلت، فمطلوب منها تهدئة المخاوف، لا تعميقها.. ولعلني وبحكم بعض الخبرة بها وبسلوكها في الأزمات أرى أنها تستحق الرهان الايجابي عبر مزيد من التفاهم مع ابو مازن، وليس التفاهم فقط وانما التنسيق لجولة كبيرة ومعقدة نحن في قلبها، واعني بها جولة الضفة والقدس اي جولة ما قبل الختام.