عادة ما يوصف القائد السياسي المميز والناجح بالمايسترو الذي يقود الاوركسترا. وجه الشبه بينهما يتلخص، بالقدرة على قيادة العمل وانتزاع اعجاب وتأييد الجميع. فكلاهما يستطيع ان يتعامل مع كل جزء واختصاص على حدة ويدمجه مع الاجزاء الاخرى في وحدة مترابطة الاداء والفعل. وعندما يجد المرء موسيقيا ناجحا - وما اكثر هؤلاء- يتساءل، اين هو القائد الذي يضاهيه في القوة والنجاح. وقلما تجد قائدا ناجحا يثير تساؤلك حول شبيهه الموسيقي. واذا ما حاول المرء ترجمة الاداء السياسي لبعض القادة باجراء مقارنة اثناء مشاهدته لمايسترو موسيقي بارع بوزن "دانيال بارينبويم" سيصدم شر صدمة، لانه سيجد في التطبيق ان المايسترو السياسي "الفصائلي" يتعصب وينحاز لقطع موسيقية من صنف واحد ،لنقل الكمنجات مثلاً، او ما يوازيها من "فصيل سياسي واحد"، ولا يعترف بالقطع الموسيقة الاخرى - الفصائل الاخرى- ويتركها تعمل على هواها. لتكون النتيجة مجموعة من الالحان والايقاعات المختلطة والمتنافرة التي لا تجذب الجمهور، بل تقود معظمه للخروج من القاعة.

واذا أجيز استخدام المقارنة بين المايسترو السياسي والموسيقي، سنجد مايسترو للحرب، جنرال اسرائيلي بامتياز لا يوجد على نوتته غير اوامر القتل والقصف والتدمير والحصار والعقوبات الجماعية.

لاول مرة يأتينا مايسترو على طرف النقيض من مايسترو الحرب، انه دانيال بارينبويم الموسيقي الالماني الاسرائيلي، الذي اتحف الحضورالفلسطيني في قصر الثقافة برام الله بمقطوعاته الموسيقية العذبة، التي عزفتها اوركسترا شرق-غرب والتي تضم موسيقيين موهوبين ومبدعين من مصر والاردن ولبنان وسورية وفلسطين واسرائيل واسبانيا. لماذا نجح بارينبويم وفرقته المتعددة الانتماءات في امتاع الجمهور الفلسطيني الذي صفق طويلا للموسيقى والموسيقيين الى درجة التوحد معهم؟ الجواب ،لانه لا يوجد على نوتته غير لحن السلام والتعايش. وهو الذي طالب اسرائيل صراحة الاعتراف بالظلم التاريخي الذي الحقته بالشعب الفلسطيني، فلا سلام بدون إزالة الظلم، ولا معنى لاستقلال شعب على حساب انتهاك الحقوق الاساسية لشعب آخر. وهو الذي تساءل امام الكنيست الاسرائيلي :كيف يسمح الشعب اليهودي لنفسه بأن يتغاضى عن حقوق ومعاناة شعب مجاور وهو الذي قاسى طوال تاريخه من معاناة لم تتوقف واضطهاد لا يرحم؟ وأكد في نفس الوقت انه لا يمكن حل الصراع بالقوة والحسم العسكري ولا بالفصل المصطنع لا من وجهة نظر اخلاقية ولا استراتيجية، ولا يمكن وقف الصراع بجدار الفصل الذي يعكس تعطش البعض للسيطرة وستكون نتائج بنائه كارثية. وبالتالي لن يحصل اي من الشعبين على الحرية والامن ما لم يحصل عليه الطرف الآخر.

هذه المواقف التي لا تنكر الآخر ولا تدعو الى شطبه او التمييز ضده ، وضعت بارينبويم على ارض مشتركة مع الاكثرية الفلسطينية، فاستقبل بحفاوة في رام الله. فتحت رام الله ابوابها لاسرائيليين يحملون بايديهم كمنجات تشارك في عزف الحان الحرية لفلسطين، كما فتحت بلعين وحبلة ورفح وبيت لحم ابوابها للمتضامنين الاسرائيليين معها ضد جدار الفصل العنصري وضد هدم البيوت. ثلاثة نماذج للعلاقة الفلسطينية الاسرائيلية. نموذج الصراع الدامي والانكار المتبادل الذي لا ينتهي إلا بهزيمة واستسلام طرف للآخر، ولا يوجد افق للوصول الى الحسم بهذه الطريقة بعد عقود طويلة من الصراع. ونموذج تعايش الشعب الفلسطيني مع احتلال وسيطرة كولونيالية اسرائيلية مموهة باتفاقات ورموز شكلية ومن خلال وسطاء ووكلاء للاحتلال. ونموذج النضال المشترك ضد الاحتلال والكولونيالية والهيمنة والعنصرية والانكار، نموذج النضال المشترك على الحواجز العسكرية وجدار الفصل العنصري والمنازل المهدمة والاراضي المصادرة والاغلاقات، وغير ذلك من النضال بالكلمة الحرة والصورة المعبرة ونداءات حقوق الانسان ورفض الخدمة العسكرية، ودعم الانتفاضة والنضال التحرري الديمقراطي الفلسطيني. لقد جاءت فعالية بارينبويم الموسيقية لتعزز نموذج النضال المشترك الملتزم بالحل العادل الذي تنتفي معه عملية اضطهاد شعب لآخر. واذا كان نموذج الصراع الدامي ونموذج النضال المشترك من اجل الحل العادل لا يتقاطعان باي شكل من الاشكال، فان نموذج التعايش المموه مع الاحتلال قد يلقي بظلاله على النضال المشترك ويختلط معه من خلال الشعارات الفارغة من المضمون. وليس من الصعب عزل الشكلين عن بعضهما البعض. فاصحاب التعايش مع الاحتلال يتعاملون بنظام "البزنيس والصفقات" ولا تجدهم مع الناس الذين يعانون في الميدان، بل تجدهم احيانا في فنادق الخمس نجوم داخل البلاد، ومعظم الاحيان في منتجعات خارج البلاد، يمارسون "عصفاً فكرياً"، او يعدون "بروبوزلات" دعم "النضال" اللاحق.

اضاف الثنائي بارينبويم وادوارد سعيد دعما مهما للنضال المشترك بفتح جبهة الموسيقى. فالموسيقى تقدم افضل مثل للديمقراطية والحياة الحضارية، إنها جسر يستطيع ان يصل الناس ويحد من فقدان الثقة ومن الريبة والخوف. صحيح انها لا تستطيع هدم سور الفصل لكنها تستطيع ان تخترقه وتخلخله. انها فن المتخيل الذي يلمس عمق الوجود الانساني، ويخترق الحدود لتسمو بمشاعر وخيالات الفلسطينيين والاسرائيليين الى آفاق غير مسبوقة من فهم عقلاني لرواية الآخر حسب بارينبويم. ومن اجل هذا اسس الصديقان اوركسترا ديوان شرق -غرب، وجمعوا الموسيقيين العرب والاسرائيليين والاسبان في "فايمر" عاصمة الثقافة الالمانية التي عاش فيها غوتة وفاغنر وباخ وشيلر، والقريبة من معسكر الابادة النازي بوخفلاند. بعد العزف تغيرت نظرة العازفين الى الآخر من جهل حيال الآخر الى نوع من الفهم. "حيثما اعزف اشعر انني في وطني" يقول قائد الاوركسترا ويضيف "عندما تقرأ غوتة تشعر انك الماني، والفن عند غوتة كان في الاساس رحلة الى الآخر وليس تركيزا على الذات. ان التواصل الثقافي يخلق للمرء هويات متعددة وثقافات مختلفة تشكل بمجموعها ثقافة انسانية مشتركة". اتفق الصديقان على تدشين الحوار بالموسيقى، وقد رأيا فيها لغة يستطيع المرء ان يتحاور من خلالها مع الآخر. وتستطيع الموسيقى التعبير عن أي شيء وكل شيء في شيفرة يفهمها القلب دون تدخل من الذهن والوعي. موسيقى بتهوفن عبرت عن هموم الناس وآلامهم وحرماناتهم وآمالهم ولعبت دورا في أنسنة البشر. ومن السهل على الموسيقى حشد الطاقات الروحية عند الافراد والجماعات والتغلغل في حياة المجتمعات البشرية، والتحول الى ملهمة للثقافة الانسانية.

جريدة الأيام (30/8/2005).