على مسافة أمتار قليلة من بيتي في حي ضاحية البريد شمال القدس، بدأت الآليات “الاسرائيلية” العملاقة، فجر يوم الثلاثاء 6/12/،2005 بغرز المستطيلات الأسمنتية الضخمة في المكان. صحوت وعائلتي وجيراني على هدير هذه الآليات. كنا نعلم أن الجدار الاخطبوطي سيصل إلينا، كما سبق له أن وصل الى معظم الأحياء من حولنا، وإلى كل مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية.. ولكننا، مع هذا العلم، كنا نأمل ان تنجح “الاتصالات الدولية”، وبعض المرافعات أمام القضاء “الاسرائيلي”، في أن توقف زحف هذا الجدار عنا، حيث انه إذا استمر في زحفه، فسيفصل ما بين البيت والبيت، وما بين أفراد العائلة الواحدة، لأن الحي ذاته ضيق جداً، ومكتظ بالسكان، ولا مجال لتسلل المستطيلات الأسمنتية إليه. كنا مخطئين جداً، وسُذّجاً الى درجة البلاهة. وكيف يُعقل أصلاً أن ينصف ذلك “القضاء “الاسرائيلي”” فلسطينياً واحداً، وهو القضاء الذي يقوم برمته على تحطيم الشعب الفلسطيني، وتسويغ سلب أرضه وتهجيره وقتله؟ كما كيف يُعقل أن تنجح “الاتصالات الدولية”، في هذا الشأن الخطير، وهي التي لم تنجح في أي وقت، بأدنى مهمة تقول فيها “اسرائيل” “لا” قاطعة وحاسمة، وكأن العالم كله مزرعة لها، لا تقل شبها عن مزرعة خراف زعيمها الأوحد شارون؟

لم تتوقف “اسرائيل” لحظة واحدة عن بناء الجدار. سبق لها ان ألقت من وراء ظهرها بقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي، والذي طالبها قبل أكثر من سنة، بوقف البناء فوراً، وبتعويض المتضررين منه، فما وجدت أحداً يلوي ذراعها، ويجبرها على تنفيذه. وهل كان أصلاً، من تمكن من لمس ذراعها، ولو مجرد لمس، في كل ما يتعلق بقرارات هيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية؟ على العكس، كانت وما تزال، تجد من يربت على كتفيها الفولاذيتين النوويتين، ويؤكد لها أن العدالة بأي شأن فلسطيني، لا قيمة لها. يعني، ان الفلسطينيين لا وجود لهم في الأساس، إلا من خلال الإرهاب. وهم مدانون به سلفاً. وليس على “اسرائيل” سوى الاطمئنان التام من أن ما تفعله على الارض علانية أو سراً، هو الحقيقة في أول المطاف، وفي نهايته.

ثمة انتفاضة في الضفة الغربية، على أية حال، يسمونها الآن “انتفاضة الجدار”. انتفاضة سلمية بحتة، لا يملك المواطنون الفلسطينيون فيها، سوى صدورهم العارية، وأياديهم التي يتشابكون بها، في مواجهة الجرافات “الاسرائيلية” التي تقتلع اشجارهم المثمرة، وتجرف أراضيهم الزراعية، لإقامة الجدار.

لم تتراجع الآليات “الاسرائيلية” قيد أنملة، أمام هذه الصدور والأيادي، والجدار يمتد ويعلو يوماً بعد آخر. غير ان الانتفاضة الجديدة لا تتراجع أيضاً. ولا تيأس أو تحبط، وهي تشاهد الأخطبوط الأسمنتي يصادر الهواء والضوء والتراب وكل أخضر نابض بالحياة من حولها.

الى حينه، لم ينخرط الشعب الفلسطيني كله، في هذه الانتفاضة. يمكن القول إنها ماتزال فاعلة ومؤثرة في القرى والمناطق الريفية فقط. فهل ستكون انتفاضة ريفية فحسب؟

ان عدم مشاركة المدن الى حينه في هذه الانتفاضة، لا يعود الى أن الجدار يغتصب الاراضي الزراعية فقط. فهو، في الواقع، يمزق المدن كما يمزق القرى، ويصادر أراضي كل المواقع والأمكنة.

لعل السبب الأهم لعدم الانخراط الجمعي في هذه الانتفاضة السلمية، ناشىء عن عدم القناعة الكافية بها من قبل كثير من المواطنين. فلابد من وجهة نظر هؤلاء المواطنين، من وجود المقاومة المسلحة ضد الجدار، كي يسقط هذا الجدار، او يتوقف زحفه. مع التأكيد، عبر وجهة النظر هذه ذاتها، على أهمية التظاهرات والمسيرات والاعتصامات والهتافات ... الخ “الانتفاضة السلمية” بشرط تكاملها مع المقاومة المستمرة. - (الخليج الاماراتية 9 كانون اول 2005) -