بعد وصولي إلى وزارة الخارجية، في أوائل هذا العام، بفترة قصيرة علقت صورة دين أتشسون في مكتبي. فقبل ما يزيد عن نصف قرن ومع مساعي أميركا لخلق عالم جديد بعد كارثة الحرب العالمية الثانية، جلس أتشسون في هذا المكتب الذي احتله الآن. وأنا علقت صورته في المكان الذي أردته لسبب محدد.

مثل أتشسون ومعاصريه نحن نعيش في عصر متميز جدا، حيث وقع تحول جذري في السياسات الدولية تحت أقدامنا، وسرعة التحولات التاريخية تتجاوز حدود خيالنا. وصورة سلفي هي تذكير بأنه في أوقات التغييرات غير المتوقعة، تصبح الدبلوماسية التقليدية التي تدير الأزمات غير كافية. بدلا من ذلك نحن تجاوزنا النظريات والمناقشات السائدة في الماضي وحوّلنا وضع «الأمر الواقع» المتقلب الذي لم يعد يناسب مصالحنا. وما نحتاجه اليوم هو فن للحكم واقعي لعالم في طور التغيير.

طرح الرئيس بوش الخطوط العريضة لرؤية تخص عالمنا هذا في خطاب تنصيبه الثاني حينما قال: «إنها سياسة الولايات المتحدة التي تسعى إلى دعم الحركات والمؤسسات الديمقراطية النامية في كل أمة وثقافة، مع الهدف النهائي الهادف إلى إنهاء الاستبداد في عالمنا». إنه خط صريح وقوي لكنه مبدأي، عززته تقاليد فخورة بنفسها للسياسة الخارجية الأميركية، خصوصا مع رؤساء جاءوا في الفترة الأخيرة، مثل هاري ترومان ورونالد ريغان. والأكثر أهمية: مثل سياسات ترومان وريغان الطموحة، فإن أسلوب الحكم الخاص بنا سينجح لا لأنه متفائل وواقعي فقط، بل لأنه يستند إلى منطق استراتيجي متماسك وفهم مناسب للحقائق الجديدة التي نواجهها.

يعترف أسلوب حكمنا بأن قرونا من الممارسات الدولية تم قلبها خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة. خذ على سبيل المثال هذه الحالة: لأول مرة منذ اتفاقية سلام ويستفاليا في عام 1648 أصبح الصدام العنيف بين الدول الكبرى ذا احتمال ضئيل. وأكثر الدول أصبحت تتنافس بأسلوب سلمي وهي لا تتهيأ للحرب. ولتعزيز هذا الاتجاه الرائع تحول الولايات المتحدة شراكاتنا مع أمم مثل اليابان وروسيا ومع الاتحاد الأوروبي ومع الصين والهند خصوصا. ونحن معا نستطيع أن نبني شكلا أكثر بقاء وأصلب من الاستقرار العالمي: توازن للقوى يقف مع جانب الحرية.

هذا التغير غير المسبوق له دعم الآخرين. فمنذ صياغة سلام ويستفاليا قبل أكثر من 350 سنة ظل نظام الدولة مستندا إلى مبدأ السيادة، إذ افترض أن الدول هي عناصر لاعبة على المستوى الدولي وأن كل دولة قادرة على معالجة التهديدات التي تبرز من أراضيها وراغبة في تحمل هذه المسؤولية. مع ذلك فإن افتراضا من هذا النوع أصبح غير صحيح تماما، ونتيجة لذلك فإن التهديدات الكبرى لأمننا محددة بديناميكيات تقع ضمن الدول الضعيفة والفاشلة، أكثر مما هي معرفة من خلال الحدود ما بين دول قوية وأخرى عدوانية.

يمكن القول إن ظاهرة الدول الضعيفة والفاشلة ليست جديدة، لكن المخاطر التي أصبحت تشكلها لم يسبق لها مثيل. فحينما يتنقل الناس والسلع والمعلومات في شتى أنحاء العالم بهذه السرعة القائمة اليوم، فإن التهديدات المتنقلة مثل الأوبئة والإرهاب قابلة على إلحاق أضرار يمكن مقارنتها بما تلحقه جيوش أجنبية. فغياب سلطة الدولة المسؤولة والتهديدات التي يجب احتواؤها، ضمن حدود البلد، أصبحت اليوم تتدفق إلى شتى أنحاء العالم تاركة وراءها دمارا ماحقا. وتخدم الدول الضعيفة والفاشلة كطرق عالمية تسهل من انتشار الأوبئة وحركة المجرمين والإرهابيين وانتشار الأسلحة الأكثر خطورة.

تجعلنا تجربتنا مع العالم الجديد، نستنتج أن الخاصية الجوهرية للأنظمة أصبحت أكثر أهمية من توزيع السلطة على المستوى العالمي. والتأكيد على عكس ذلك هو غير عملي ويخلو من الحذر. والهدف من سياسة حكمنا اليوم هو المساعدة على تكوين دول ديمقراطية ومحكومة بطريقة جيدة وتكون قادرة على تلبية احتياجات مواطنيها وتتصرف بشكل مسؤول ضمن النظام العالمي. أما السعي لرسم خطوط واضحة تميز بين مصالحنا الأمنية ومثلنا الديمقراطية لا يعكس حقيقة عالم اليوم. ودعم تطور وتنامي المؤسسات الديمقراطية في جميع الأمم، ليس موقفا أخلاقيا أقرب للخيال منه إلى الواقع، بل هو رد فعل واقعي للتحديات التي تواجهنا اليوم.

في منطقة واحدة من العالم أصبحت المشاكل البارزة من طبيعة المناطق هي أكثر من غيرها. فالنقص في الحرية ضمن الشرق الأوسط يوفر أرضا خصبة لنمو آيديولوجيا الكراهية، حيث تصل إلى نقطة عالية من الفساد والخبث، وهذا ما يدفع الناس إلى أن يصبحوا قنابل انتحارية ويقودوا الطائرات كي تتصادم بالمباني. حينما يعجز المواطنون في هذه المنطقة عن تطوير مصالحهم ولا يستطيعون أن يحلوا مظالمهم، عبر عملية سياسية مفتوحة، فإنهم ينسحبون يائسين صوب الظلال، كي يكونوا موضع استغلال من قبل أشخاص أشرار، كي يقوموا بأعمال عنف. في تلك المجتمعات من الضلال التشجيع على تحقيق إصلاح اقتصادي بفضل قدرات الدولة نفسها أو الأمل بأن النقص في الحريات يمكن أن يتم ملؤه بنفسه مع مرور الوقت.

على الرغم من أن الشرق الأوسط ككل لا يمتلك تاريخا في الديمقراطية، فإن ذلك لا يعد سببا لعدم القيام بأي شيء. وإذا كان كل إجراء يتطلب سابقة له فإنه لن يكون هناك أوائل. نحن واثقون من أن الديمقراطية ستنجح في المنطقة لا لأننا مؤمنون بمبادئنا، بل لأن التوق الإنساني الأولي للحرية والحقوق الديمقراطية قد غيّر عالمنا. كان المتخابثون الدوغمائيون وأصحاب النظرة الحتمية، بما يخص الثقافات المختلفة، متأكدين ذات مرة من أن القيم الآسيوية أو الثقافة اللاتينية أو الاستبداد السلافي أو القبلية الأفريقية تجعل تحقق الديمقراطية مستحيلا. لكنه على خطأ وأسلوب حكمنا يجب أن يسيَّر اليوم من خلال حقيقة لا يمكن نكرانها، وهذه تتمثل في أن الديمقراطية هي الضمان لسلام وأمن دائمين بين الدول، لأنه الضمان الوحيد للحرية والعدالة ضمن الدول نفسها.

وتكمن ضمن أهداف أسلوب حكمنا حدود قوتنا وأسباب تواضعنا. فبعكس الأنظمة الاستبدادية فإن الديمقراطية وبسبب طبيعتها لا يمكن فرضها على الآخرين، فعلى المواطنين أن يختاروها حسب قناعاتهم لا في الانتخابات فقط. والعمل على تحقيق الديمقراطية هو عملية يومية لبناء مؤسسات الديمقراطية: حكم القانون واستقلالية القضاء والاعلام الحر وحقوق الملكية، هي من بين أمور أخرى. لا تستطيع الولايات المتحدة أن تحقق هذه النتائج، لكننا نستطيع ويجب علينا أن نوفر الفرص للأفراد كي يكونوا مسؤولين عن حياتهم وأممهم. تكسب قوتنا أقصى شرعيتها حينما ندعم الحق الطبيعي لكل الناس، حتى أولئك الذين لا يتفقون معنا، كي يحكموا أنفسهم بحرية.

وإذا كان فن الحكم يستدعي الولايات المتحدة كي تمارسه اليوم في عالم اليوم، هو أمر طموح، بل وحتى ثوري، فإنه مع ذلك ليس متهورا. سيكون أي مزاج محافظ متشككا من أي سياسة تدعم التغيير وترفض الأمر الواقع، لكن ذلك ليس حجة ضد مزايا سياسة كهذه. ومثلما قال ترومان ذات مرة: «العالم ليس ثابتا، وما يعد أمرا واقعا هو ليس شيئا مقدسا». وفي أوقات التغيير الخارقة للمألوف، مثل هذا الوقت، حينما تكون تكاليف عدم القيام بأي شيء تزيد بقيمتها عن مخاطر القيام بإجراء ما، فإن تجنب القيام بأي شيء هو ليس خيارا. وإذا كانت مدرسة التفكير المعروفة باسم الواقعية هي فعلا واقعية، فإن عليها أن تعترف بأن الاستقرار بدون ديمقراطية سيبرهن على أنه استقرار زائف، والخوف من التغيير هو ليس وصفة إيجابية لوضع سياسة ما.

ففي نهاية المطاف من يؤمن اليوم بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 أن «الأمر الواقع» في الشرق الاوسط مستقر ومفيد ويستحق الدفاع عنه؟ كيف يمكن اعتبار الحفاظ على «الأمر الواقع» في هذه المنطقة تعقلا، بينما هي تقوم بتفريخ وتصدير الإرهاب، وحيث انتشار أسلحة الدمار الشامل أصبح أسوأ مما كان عليه من قبل، وحيث الأنظمة الاستبدادية تسقط فشلها على الأمم الصغيرة والشعوب؛ حيث لبنان عانى من العقب الحديدية للاحتلال السوري؛ وحيث السلطة الفلسطينية تهتم أكثر ببقائها من طموحات شعبها؛ وحيث ظل ديكتاتور مثل صدام حسين قادرا على ذبح مواطنيه، وزعزعة وضع دول الجوار وتقويض أي أمل بتحقق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟ إنه وهم محض عندما يرى البعض أن الشرق الأوسط كان رائعا قبل أن تعرقل أميركا استقراره المزعوم.

ولو كنا مؤمنين بكل هذا ولم نقم بأي شيء، هل كان ممكنا تحقق ما نراه الآن خلال سنة واحدة: لبنان حر من الاحتلال الأجنبي وعلى طريق تحقيق الإصلاح الديمقراطي. السلطة الفلسطينية تدار من قبل زعيم منتخب يدعو وبشكل علني إلى السلام مع إسرائيل. ومصر التي عدلت دستورها كي تنظم انتخابات متعددة الأحزاب. والكويت حيث أصبحت النساء فيها مواطنات كاملات، وبالتأكيد هناك العراق الذي يواجه تمردا رهيبا، والذي نظم انتخابات تاريخية، ثم صاغ دستورا جديدا و صوّت عليه، والآن هو في طريقه إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى لاختيار حكومة دستورية جديدة.

في هذا الوقت قبل عام كان هذا التقدم يبدو مستحيلا. وسيأتي اليوم الذي يبدو كل ما تحقق أمرا لا بد منه. هذه هي طبيعة الأزمنة الخارقة للمألوف، التي فهمها أتشسون جيدا ووصفها بشكل كامل في مذكراته. كتب في فقرة قائلا «مغزى الأحداث مغطى بما هو غامض ومثير للالتباس. نحن نتلمسها من خلال تأويلها وأحيانا يكون الاتجاه المعاكس لفعل ما يستند إلى رؤى سابقة، وهذا ما يجعلنا نتردد طويلا قبل أن نمسك ما يبدو الآن واضحا». حينما غادر أتشسون وزارة الخارجية عام 1953 لم يكن قادرا على معرفة مصير السياسات التي ساعد على تشكيلها. وهو بالتأكيد لا يستطيع التنبؤ بأنه بعد أربعة عقود ستكون إمكانية الحرب بين القوى الأساسية في أوروبا أمرا مستحيلا، أو أن الولايات المتحدة والعالم سيحصدان ثمار قراراته الصائبة وسيتمكنان من تحمل نتائج الأنظمة الشيوعية. لكن لأن زعماء مثل أتشسون قد وجهوا فن الحكم مع قيمنا حينما تكون السوابق لفعل ما غير متوفرة، ولأنهم تعاملوا مع عالمهم وهم لا يرون أنفسهم باعتبارهم عديمي القوة لتغييره نحو الأحسن، أصبح الوعد بتحقق سلام ديمقراطي اليوم حقيقة في كل أوروبا وفي جزء أكبر من آسيا.

حينما أمر بصورة أتشسون قبل أن أغادر مكتبي للمرة الأخيرة، لن يكون أي شخص قادرا على معرفة المشهد الكامل لما حققه فن الحكم الخاص بنا. لكنني أمتلك ثقة كبيرة بأننا سنضع أساسا مبدئيا متينا، أساسا ستتمكن الأجيال القادمة من إدراك رؤيتنا كأمة لعالم مسالم وديمقراطي وحر بشكل كامل. - (الشرق الأوسط 13 كانون اول 2005) -