وأنت تخطو خطواتك الأولي في رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها الوطنية، معلنا تمسكك بالثوابت الوطنية المتمثلة في حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وحق تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وساعياً لتحقيقها، منطلقاً من تعزيز الجبهة الداخلية وتوحيدها، فإنني، إذ أتمني لك التوفيق والنجاح في مشوارك الطويل والصعب، تقضي الأمانة أن أنقل إليك رسالة حمّلني إياها لاجئ فلسطيني يتحدث باسم إخوانه اللاجئين جميعاً، ويعبر عن موقف أبناء الشعب الفلسطيني بأسره.
تقول الرسالة: الأخ العزيز أبو مازن: رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، تحية طيبة تليق بمقامك الرفيع وبعد.
ليس مهماً أن تعرف اسمي ونسبي، فأسماؤنا كلها متشابهة، واللقب واحد، يبتدي أو ينتهي بكلمة لاجئ. وليس مهماً أيضاً أن تحدد عنواني، فكل عناويننا المؤقتة واحدة، لأنها تقع خارج أرضنا، ولا تحمل بيوتها أية أرقام، ولا شوارعها أية أسماء. يستوي فيها من استوطن المخيم أو حواليه، ومن بقي داخل الوطن أو تلقفته منافي الشتات. أما عنواننا الدائم فقد بقي محفوراً علي جذر شجرة بقيت تحرس الأرض وتضرب عميقاً فيها، أو في نبتة صبار تخز أشواكها كل من أراد اقتلاعها. أو تدل عليه عظام الآباء والأجداد التي رفضت الرحيل، وبقيت تؤنس بعضها بعضاً، وتتواصل أرحامها حتي يعود إليها الأبناء والأحفاد الذين طال بهم الغياب. وكلنا أيضاً نعرفك، رأيناك أو لم نلتقك، اخترناك أو لم تسمح لنا ظروف المنافي مشاركة شعبنا في انتخابك وقول رأينا فيك. فبيننا وبينك عقد وعهد وطني، أقوي من المكتوب، حملت بموجبه مسؤولية الدفاع عن قضيتنا التي نعتبرك أكثر من يعرفها، ويدرك كل تفاصيلها، وتعهدت بموجبه أن تعيد إلينا حقوقنا كما نصت عليها بنود العقد الذي وقعته معنا منظمة التحرير حين أخذت منا تفويضنا لها بالتمثيل. والعقد ـ كما تقول القاعدة الفقهية التي تعيها جيداً كرجل قانون ـ شريعة المتعاقدين، ويلزم أطرافه بشروط تنفيذه.
في مخيماتنا في الشتات، غرسنا نبتة الثورة، ورويناها بدمائنا، وأوقدنا شعلتها، وأطعمناها من ضلوعنا. وحين كان الخطر يحدق بها أو يغشاها، كانت صدورنا هي المتاريس التي تحميها.
ولم تكن مخيمات الداخل أقل وفاءً أو عطاءً، فحين ضاق الخناق علي الثورة في الخارج، ولم تجد مكاناً يؤويها، ويضمن لها ولقضيتها الدوام، جاءَتها النجدة من الداخل فاشتعلت نار الانتفاضة، وكأن الثورة هاجرت هجرة عكسية من الخارج إلي الداخل، فكان المخيم، مرة أخري، حضنها الدافئ الحنون. وكلا الحالتين لم تغيبا عنك، ولم تغب عنهما، حتي جاءَت السلطة الوطنية ثمرة لهما، وأخذت موقعك فيها، حتي توليت مسؤوليتها الأولي الآن، بالإضافة إلي مسؤوليتك الأولي في منظمة التحرير. نقدر حجم الصعوبات التي ستواجهك في دفاعك عن حقنا في العودة فنحن نتابع موقف العدو الصهيوني المتعنت من هذا الحق، والرافض للاعتراف به، بل والرافض للاعتراف بأية مسؤولية سياسية أو أخلاقية عن جريمته في طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، ونعرف أن أول تصريح إسرائيلي صدر بعد انتخابك مباشرة هو مطالبة بنيامين نتنياهو لك التنازل عن حق العودة، ودعوتك للتحلي بالجرأة لاتخاذ مثل هذا القرار. وعلي مدي العامين الماضيين بذلت حكومة إسرائيل مجهودات كبيرة لتجاوز هذا الحــــق، وإلغائه، ودفع الطرف الفلسطيني لعدم التفكير فيه، وكذلك دفع المجتمع الدولي لنسيانه، ولهذا رغب شارون في أن تتضمن خارطة الطريق نصاً صريحاً علي إسقاط حق العودة، وحرص علي أن يكون الضمان الأهم الذي يحـــصل عليه من الرئيس الأمريكي هو أيضاً إسقاط حق العودة، بالإضافة إلي عدم إلزام حكومته بالانسحاب إلي حدود الرابع من حزيران 1967. وسمعنا تصريحات شارون المتكررة وهو يركز علي يهودية الدولة لقطع الطريق أمام عودة اللاجئين، وفتح الباب أمام إمكانية طرد إخواننا عرب الجليل والمثلث والنقب خارج حدود الدولة الإسرائيلية باعتبارهم يهددون أو يشوهون يهودية الدولة ونقاءَها العرقي.
كل هذا نعرفه ونتابعه، وندرك مدي خطورته علي قضيتنا، لكننا أيضاً ننبه إلي خطر داخلي علي حق العودة، يتساوق مع الخطر الإسرائيلي والخارجي، ويتزامن معه، بل ويغذيه، ويضعف الجبهة الداخلية في مواجهته. ومما يزيد من أثر هذا الخطر الداخلي كونه يأتي من شخصيات قيادية في أعلي هيئة قيادية فلسطينية (اللجنة التنفيذية للمنظمة) ومسؤولين في السلطة الوطنية، ونعني بذلك ما يسمي بمبادرة جنيف وأصحابها، وقرينتها مبادرة (نسيبة ـ يعالون) اللتين تبرع أصحابهما بالتنازل عن حق العودة، وكأن أرض الشعب الفلسطيني وممتلكاته ملك شخصي لهم يتصرفون به دون حساب أو عقاب. وهذه التصرفات اللامسؤولة التي تستهين بحقوقنا هي ما نلفت نظرك إليه، وندعوك لوقفها وردع أصحابها، وليكن ذلك جزءًا أساسياً من حملتك لتعزيز جبهتك الداخلية، وتوحيدها، علي قاعدة التمسك بالثوابت الفلسطينية وأولها حق العودة. وفي ذلك ما يقويك أمام العدو الشرس الذي تواجهه من جهة، وفيه من جهة أخري ما يقوي منظمة التحرير ويعزز وحدتها وصدقية تمثيلها لشعبها، ويقطع الطريق علي القوي المتربصة بوحدة شعبنا. فلنوصد الباب في وجه هؤلاء المتربصين، ونظن أن مغلاق الباب هو الآن بين يديك.
وحين نطالبك بالتمسك بحقنا في العودة، ومنع أي تلاعب به، أو أية مساومة عليه، فنحن ننطلق في ذلك من أهداف ومبادئ منظمة التحرير التي التقينا وتوحدنا جميعا علي أرضيتها، وننطلق من إعلانك التمسك بالثوابت الوطنية التي دعوت الناس لانتخابك علي أساسها فاستجابوا لك. ونراهن علي ما عرفناه من أنك رفضت كل الضغوط الإسرائيلية والدولية التي مورست عليك ـ حين كنت في موقع رئيس وزراء السلطة ـ للإقرار بيهودية دولة إسرائيل حتي لا يتخذ هذا الإقرار مستنداً يرفع في وجهك حين تطالب بحق العودة. ونراهن علي ما سمعناه عنك من أنك أجبت صديقاً أوصاك بالحرص علي حق العودة، وأنت في طريقك إلي مباحثات كامب ديفيد عام 2000، بقولك تُقطع يدي ولا أتنازل عن حق العودة .
هذا الموقف من حق العودة هو الذي دفع شعبك في مخيمات اليرموك والرشيدية للخروج بعشرات الألوف لاستقبالك وحملك علي الأعناق. تلك هي وصية شعبك لك في الخارج يا أخانا أبا مازن، وهي أيضاً وصية شعبك في الداخل. فحين يطرح عليك الإسرائيليون موضوع توطين اللاجئين في الخارج فأجبهم بأن شعبك رفضه قبل أكثر من خمسين عاماً ولو ارتضي لنفسه وطناً بديلاً، وأرضاً غير أرضه، لما انتظر كل هذه المدة، ولما احتفظ بصفة اللجوء، واحتمل عذاباته كل هذي السنين. وإن تحججوا بأن فلسطين هي أرض الميعاد لليهود، لا تستمع إليهم، ولا تجادلهم، وقل لهم إن كان لابد لطرف أن يعترض علي وجود الآخر، فنحن من يعترض. لأننا نحن أصحاب الأرض، وهم الطارئون. وإن تذرعوا بأن مساحة أرض فلسطين لا تتسع لنا ولهم، فإن مقولتهم تسقط حين نعلم أن 80% من مساحة الأرض التي تقوم عليها إسرائيل لا يعيش فيها الآن أكثر من 20% من اليهود، أي أن أغلبية الأرض شبه خالية من السكان، وهي تتسع لمالكيها الحقيقيين، الأقدر علي إعمارها واستثمارها، وهم الأولي بها من أولئك الأغراب الذين تستوردهم حكومة إسرائيل كبضاعة بشرية.
وإن حاولوا مقايضتك بأن يعرضوا عليك جزءا من القدس، أو الحرم الشريف، أو يغروك بدولة يرسمون حدودها، ويتحكمون في وجودها، مقابل تنازلك عن حق اللاجئين في العودة .... فقل لهم : القدس جزء من القضية، لكن عودة اللاجئين هي القضية كلها. والقدس قطعة من الوطن، واللاجئون هم الوطن كله. ولا يعني ذلك المفاضلة بين القضيتين، ولا تقديم إحداها علي الأخري من حيث الأهمية، وإنما لتأكيد أهميتهما معاً، ومكانتهما لدي شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية. ولا نقصد بذلك وضع عودة اللاجئين عقبة في طريق عودة القدس، إن كانت هناك إمكانية لاستعادة القدس أو أي جزء منها. ولا عقبة في طريق إقامة الدولة، إن كانت هناك إمكانية للحصول عليها. وسيرحب شعبنا بإنجاز أي حق من حقوقه، لكنه لا يقبل أن يمر طريق الدولة أو القدس عبر التضحية بحق اللاجئين في العودة، أو التنازل عنه. وسيساومونك علي التعويض، فلا تقبل به. ذلك أن الوطن ليس قتيلاً حتي نقبل دية عنه، فأرضنا بكل نبض الحياة فيها، مازالت ماثلة أمام عيوننا.
نعلم ان سلطات حكومات في المنطقة، ممن يستضيفون اللاجئين، سيسيل لعابهم لأموال التعويضات، ويستجيبون لإغراءاتها وللضغوط الخارجية عليهم، وسيشجعون علي قبول التعويض. ولهؤلاء نقول : إن قضيتنا ليست للبيع ولا للتكسب، ومن أراد التجارة فأرضنا ليست معروضة للمزاد.
ونذكر أولئك الذين غابت ذاكرتهم، أو غيبوها، وهماً بأن كل شيء يمكن أن يشتري ويباع بالأموال، بما في ذلك الحقوق والأوطان، خوفاً ورعباً من البعبع الأمريكي، أو ادعاءً بالواقعية وتغير الظروف العربية والدولية، بأننا لم نقرأ في أي من مدارس الواقعية أو كتبها أية نصوص تقول بتنازل شعب بأسره عن كامل أراضيه وحقوقه لطرف آخر، والتوقف عن المطالبة بها، والتوقيع علي صكوك تحرم عليه وعلي أجياله اللاحقة حق الادعاء بوجود أية حقوق له لدي الطرف الآخر. إننا نفهم أن الواقعية قد لا تمكننا من نيل هذه الحقوق الآن، أو قد يمكن تحقيق بعضها الآن، وبعضها لاحقاً. وقد تعني تقصير الجيل الحالي أو عجزه عن تحقيقها، ولكنها لا تعني حرمان الأجيال اللاحقة من المطالبة بها، والنضال في سبيلها. فإذا كان حق العودة غير متاح الآن، فإن التفريط به غير مباح أبداً.
هذا هو فهمنا لحقوقنا يا أخ أبو مازن، وهذه هي رؤيتنا لتطبيقها، وفي وعيك لهذه المسألة، وتمسكك بها يكمن فصل الخطاب.
وعلي هذا الأساس، لك منا كل الدعوات بالنجاح والتوفيق. - القدس العربي -