سألتني الإعلامية نجلاء العمري من هيئة الإذاعة البريطانية الـ بي. بي. سي غداة قمة شرم الشيخ عن الموقف السوري من تلك القمة، وعن زيارة السيد نبيل شعث إلي سورية بعدها، وهل ستحرك سورية الفصائل الفلسطينية لديها ضد أو مع هذه القمة، وهل لسورية آمال في الانضمام إلي عملية السلام التي أخذت من منتجع السلام في شرم الشيخ قاعدة لها.

قدمت خلال المقابلة الإذاعية إجابات علي تلك الأسئلة فيها الكثير من الحياء وأقرب ما تكون إلي ديبلوماسية خشبية خالية من الحياة.

أشدت بخطاب الرئيس المصري حسني مبارك لمجرد ذكره بأن يكون السلام شاملاً، وكأن وجوب أن يكون السلام في منطقة الشرق الأوسط شاملاً، أضحي سقف المطالب العربية.. وكأن كلمة شامل أضحت إستجدائية إذا ذكرها مخلوق يقترب ولو بوصة واحدة من الرسمية تحقق إنجازات تحلم بها الأجيال القائمة والقادمة... وكأن الشامل أكبر منّة نستجديها من إسرائيل أو ورطة نخطط أن نوقع إسرائيل فيها.

لا أريد هنا أن أفلسف كلمة شامل أو أن أتحدث عن التفرد أو الإنفراد أو تمرير الصفقات أو شهود الزور إلي آخره من مفردات كلها حقيقية، ولا أريد أن أسجل بالقلم العريض كم هي مفيدة حالة البرغماتية في عصر أمريكي تسود فيه لغة ومنطق القوة علي قوة ولغة المنطق، بل اثبت كم هي مكلفة حالة الانفصام التي يعيشها العرب إعلامياً وسياسياً وثقافياً.

كم كنت أتمني أن أقول للزميلة نجلاء ليذهب إلي الجحيم أي سلام مع إسرائيل يقودها مجرم لا يستحق أن يكافأ بوجود سفراء عرب في ثكنته، بل ولا يستحق أن يجلس في محضر فيه بشر حتي ولو وصفه زعيم أعتي قوة في العالم بأي وصف كان.

والمؤلم أكثر هو أن يجلس هذا الـ شارون ويتكلم ويملي شروطه ويظهر بمظهر من يقدم التنازلات ويتلقي كل أنواع الإشادات من عالم غربي يعتز بـبرغماتيته.

كدت أكثر من مرة أن أتعهد للزميلة نجلاء بألا يحرك بعض قادة الفصائل الفلسطينية المتواجدين في دمشق ساكناً تجاه القمة التاريخية ـ كما وصفها السيد توني بلير رئيس وزراء بريطانية ـ وأكدت مراراً أن هؤلاء الفلسطينيين قد يحركون شفاههم ويعبرون عن رأيهم فقط. وهذا طبقاً للدعوة الأمريكية للديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وإلي أن تتراجع واشنطن عن شعاراتها هذه سيستمر هؤلاء بتنفيذ الوصية الأمريكية وما تحتويه من ديمقراطية و حرية التعبير عن الرأي .

كنت أقدم إجاباتي الديبلوماسية المهزومة والمنفصمة لنجلاء العمري قبل ان أقرأ ما كتبه الصحفي البريطاني روبرت فيسك في صحيفة الإندبندنت ذلك اليوم حول القمة التاريخية في شرم الشيخ. وفيسك سمي في مقاله الأشياء والأحداث والأشخاص بمسمياتها وفي كثير من الأحيان كان ساخراً بشكل مرير وهو يبدأ مقاله بالقول ها هم الفلسطينيون سينهون احتلالهم لإسرائيل، ولن تشق دباباتهم بعد الآن طريقها إلي حيفا و تل أبيب، وستتوقف طائراتهم الـ إف 16 عن قصف التجمعات السكانية الإسرائيلية، وكذلك ستتوقف طائراتهم الأباتشي عن استهداف قادة إسرائيل .

وبعد سخرية مريرة يتابع فيسك في اجتماع شرم الشيخ لم يأت أحد ولو مرة واحدة علي ذكر كلمة الإحتلال، ولم تذكر كلمة مستوطنات أو مستعمرات، ولا القدس ولا اللاجئين وكأنها كلمات محرمة، فما أشبه اليوم بالأمس وما أشبه شرم الشيخ بأوسلو . ويتابع فيسك سخريته فيقول ما حدث في شرم الشيخ تاريخي، تماماً مثل الانتخابات العراقية، وهو تاريخي فقط لأن واشنطن ولندن تقولان عنه ذلك .

ويختم فيسك بالقول إن اجتماع شرم الشيخ دموي بدموية اجتماع أوسلو، فاسألوا محمود عباس.. فهو من وضع نصوصه .

أما أنا فوضعت علي نفسي ضوابط خالية من أي شجاعة أو صراحة، مقارنة بروبرت فيسك. لقد حرمت نفسي من الديمقراطية والحرية في التعبير التي ينادي بها السيد بوش والآنسة رايس حتي لا يسجل عليّ أحد بأنني أحرض الانتحاريين أو أنني معاد للسامية أو أنني سوري، فأنا في بريطانيا وعليّ استخدام استراتيجيات تخاطبية تصالحية تروق للعقل الغربي وتناسبه، وكان عليّ أيضاً أن أحسب الحساب بأن سورية مستهدفة ولا ينقصها عداوات أو إعطاء الفرصة لمن يريد لها الأذي.

ہ ہ ہ

فكرت ملياً بعد استخدامي تلك الاستراتيجيات التخاطبية الانهزامية فأيقنت كم كنت واهماً، فانا اعرف في داخلي كم هي قوية فلسطين، وكم كان ذلك الصبر الفلسطيني الإيجابي فاعلاً، وكيف جعل ذلك الصمود الفلسطيني العظيم ذلك المجرم شارون أن يتوقف ويفكر بما يجري حتي لو كانت أمريكا وسياساتها مسخرة للدفاع عن جرائمه وتبريرها.

أعرف في داخلي كم هي قوية سورية، فهي لو لم تكن كذلك لما استجرت كل هذا الاستهداف والعداء الأمريكي خدمة لإسرائيل. أعرف أن سورية قوية لانها تعيش من خيرها وكّد ابنائها دون ديون أو ارتهانات خارجية.. قوية لانها تريد السلام فعلاً، قوية لانها تتفحص وتحلل علي مدار الساعة مواضع الوهن والتقصير والفساد والإفساد في داخلها وتسعي جاهدة إلي تصحيحها، قوية لانها في لبنان ولبنان فيها، وكذلك فلسطين فهي في فلسطين وفلسطين في قلبها؛ قوية لانه إذا ما استفتي الشارع العربي بمن يثق ومن يحب ومع من هو مستعد أن يسير لاختار سورية، قوية بانفتاحها وعلاقاتها الطيبة مع دول العالم قاطبة، باستثناء إسرائيل وجزء من السياسة الأمريكية.

كيف تكون سورية معزولة أو ضعيفة ـ كما يدعي البعض ـ مع هذا الحجيج السياسي والإعلامي العربي والدولي إليها ؟! وكيف تكون ضعيفة أو معزولة وهي غنية بأهلها وتاريخها وحضاراتها ومواقفها وتسامحها؟! وكيف تكون معزولة وضعيفة والمعارضة الداخلية منها والخارجية تصرح وتكرر بأنها لا تقبل بديمقراطية الدبابة الأمريكية؟! ألا يتوقع من هذه السورية أن تقول للمعارضة أو لصاحب أي رأي آخر من أهلها: أهلاً بك لنمضي معاً ونحمي سورية بكل ما أوتينا من قوة...؟

ها أنا بعد هذا أشعر بشيء من التوازن الذاتي وقد قلت الحقيقة بكل ديمقراطية وحرية أمريكية.

وأعتذر للسيدة نجلاء العمري علي ديبلوماسيتي وخشبيتي، وإن حدث ودعتني نجلاء مرة أخري إلي مقابلة أو حوار أو حتي استجواب، فلن أكون إلا شفافاً كما تريد سورية أن تكون.

* رئيس المركز الاعلامي السوري في لندن - الحياة اللندنية -