لو نطق ضمير الناس في فلسطين، وخاطب الرئيس محمود عباس لقال له:

- لم يشارك معظمنا في الانتخابات الرئاسية لأننا جربنا الكثير من الرؤساء والملوك منذ اغتصاب أرضنا وحتى يومنا هذا، فلم نجد منهم خيراً يذكر لنا أو لقضيتنا، ففقدنا الأمل والرجاء في جميع الملوك والرؤساء، وتوقعنا أن يكون الرئيس الفلسطيني القادم نسخة مشابهة لأولئك الذين جربناهم فلم نر منهم إلا الخُطب والوعود، بل أسهم كل واحد منهم بنصيب من مصائبنا ونكباتنا وتراجع قضيتنا؛ ولذلك عندما اختارك أغلبية من شاركوا منا في الانتخابات لم نفرح ولم نتفاءل.

- بدأ كثير منا يغيرون وجهة نظرهم فيك، ويتفاءلون بك ويقولون: "إنك رئيس من نوع مختلف"، وذلك عندما رأوا أن نسبة فوزك في الانتخابات لم تكن قريبة من 100% كالرؤساء الآخرين، وعندما أعلنت حرباً على الفساد وخطوت في ذلك بعض الخطوات، وعندما أعلنت عن انتخابات بلدية وتشريعية نزيهة وحددت مواعيدها وأجريت أولى مراحلها بنسبة عالية من النزاهة شهد بها الجميع، وعندما تقبلت نتائجها بالرغم من خسارة الحركة التي تنتمي إليها، وفوز الحركة المنافسة لها، وعندما طالبك الأعداء سراً وعلناً بتأجيل أو إلغاء الانتخابات التي ستوصل حماس إلى التشريعي والبلديات فأعلنت أنها ستُجرى في مواعيدها المحددة والمعلنة، وأنها لن تلغى ولن تؤجل، وعندما أعلنت أن يد سلطتك لن تمتد إلى سلاح المقاومة والمقاومين حفاظاً على الوحدة الوطنية وهروباً من الحرب الأهلية والتزمت بذلك، وعندما أعلنت أنك قادم إلى الرئاسة من أجل تحقيق هدف وطني هو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، ومن أجل إخراج جميع الأسرى من سجون الاحتلال، وأنك لن تتنازل عن حقهم في القدس، وأنك تحمل برنامجاً سيحقق طموحاتهم السياسية والإصلاحية، ويوفر لهم الحياة العزيزة الهانئة، وطالبت بأن تُمْنَحَ الفرصة للتجربة، وقلت أنك ستستقيل إن فشلت، فمنحتك فصائل المقاومة الفلسطينية -وخصوصاً حماس- ما لم تمنحه لغيرك، فوافقتْ على التهدئة التي طالبتَ بها، والتزمتْ بها، وقَبِلَتْ عرضك عليها بالمشاركة في الانتخابات البلدية والتشريعية.

- بدأ كثير من المتفائلين منا بعهدكم يتشاءمون، لأنهم لم يروا محاسبة للفاسدين الذين نهبوا من أموال الشعب الملايين، ولأنهم لم يسمعوا عن مسئول فصل من عمله بتهمة الفساد، ولأنهم رأوا كثيراً ممن اشتهروا بالفساد ما زالوا في مناصبهم يَظلمون ويَسرقون ويَرتشون، ولأنهم رأوا مسئولين سابقين فروا بطرق رسمية إلى عواصم عربية، لينعموا بما سرقوا من ملايين، فلم يطالب أحد بهم، ولأن الأسعار ترتفع باستمرار، وقيمة رواتبهم في انحدار، ولأن نسبة العمال والخريجين الذين لا يجدون وظائف تسترهم وتسد رمق أطفالهم تزايدت بشكل مخيف، ولأن التعيين في الوظائف ما زال يتطلب موافقة الأجهزة الأمنية التي تَحْرِمُ منها من ينتمون إلى الفصائل المخالفة لهم، ولأن هذه الأجهزة لم تقم بواجبها نحوهم، فلم تحمهم من اعتقال اليهود، ولم تمنعهم من اعتداء السفلة المتقوين بأسلحتهم أو تنظيماتهم أو رتبهم أو عائلاتهم، ولم تحفظهم من الغشاشين مستوردي سلع العدو الفاسدة، ولا من المجرمين الذين يقتلونهم عندما يرشون منتجاتهم الزراعية بمبيدات مسرطنة، ولا من المسئولين والموظفين الذين يؤدون واجباتهم مقابل رشاوى باهظة، ولا من التجار الجشعين الذين لا يشبعهم إلا أضعافاً مضاعفة من الربح، ولا من العملاء الذين قتلوا قادة شعبهم، وما زالوا ينخرون فساداً وتخريباً في جسد وطنهم المبتلى؛ ولأن حلمهم بالعدالة والنزاهة والإصلاح والديمقراطية الذي وعدتهم به قد تبخر، عندما أُلغيت نتائج انتخابات البلديات التي فازت بها حماس في رفح وبيت لاهيا بقرار من القضاء وهم جميعاً شهود على ظلمه، وعندما عدتَ من أمريكا لتعلن تأجيل الانتخابات التشريعية بعد أن صرحت وأكدت أنها لن تؤجل.

- إن الثقة التي أعطاك إياها كثيرون منا يمكن أن تعود فقط عندما تصبح الوعود واقعاً ملموساً، أو نرى خطوات جادة نحو تحقيقها، فنحن شعب لم تعد تشبعه أو تخدره الخطب والوعود، وأنت واحد منا ولا يغيب عنك ما فعلته فينا وفي قضيتنا خطب الزعماء الرنانة ووعودهم المعسولة التي ما زادت قضيتنا إلا تراجعاً؛ ونحن لا نطالبك بما لا تستطيعه، فلا نريد منك أن تحرر فلسطين من البحر إلى النهر، ولا نرجو أن تحرر لنا القدس، ولا أن تعيد اللاجئين إلى ديارهم في يافا وحيفا وصفد وغيرها، لأننا واقعيون وصرحاء مثلك ونعرف أنك غير قادر على ذلك، كما نعرف جيداً الطريق الذي يمكن أن يتحقق به ذلك.

- لكننا نريد أن لا تصادر حقنا وحق الأجيال القادمة في هذه الأرض من خلال التوقيع على حلول تحصل من خلالها على جزء يسير محاصر مقيد منها، لا يحمل من صفة الدولة المستقلة إلا اسمها، وهو أشبه بالسجن الجماعي الكبير، ونريد أن تجعل قضية تحرير جميع الأسرى قضية مقدمة حتى على قضية الانسحاب من غزة وغيرها، ونريد أن تحافظ على عهدك ووعدك بأن لا يقترب أحد من السلاح الفلسطيني النظيف الذي حمانا من اجتياحات الأعداء المتكررة، والذي سيحمينا مستقبلاً من غدر اليهود المتوقع في أي لحظة، والذي لم يظهر إلا في ميادين الشرف، ونريد أن تَثْبُتَ على موقفك الشريف هذا، وإن ضغط عليك الأعداء وحلفاؤهم وأعوانهم، فهو الموقف الذي سيحمي شعبك من حرب أهلية مدمرة، لن يرحم الله ولا التاريخ كل من سيكون سبباً في صنعها؛ ونريد أن توفر لشعبك حياة كريمة، فتجلب الأموال الفلسطينية الضخمة المودعة في الخارج، وتبني بها المصانع والمنشئات الاقتصادية المنتجة فتحفظ عمالنا من العمل الذليل في مصانع ومشاغل الأعداء، وتقيهم الذل والإهانة التي يتجرعونها كلما تسلموا كوبونة بمبلغ زهيد، ونريد أن تحاسب الفاسدين وتحاكمهم وتصادر ما سرقوه من أموال الشعب، وتلاحقهم فتنظف مختلف الدوائر الرسمية منهم، حتى يثق بنا المستثمرون والخيرون والمتبرعون فيقيموا في بلادنا المشروعات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية والخيرية التي تعود على الناس بالخير الوفير، ونريد أن تتعاون مع كل الشرفاء والخيرين على اختلاف توجهاتهم من أبناء هذا الوطن لتحقيق هذا الهدف، ونريد عدالة ومساواة وقوانين مستمدة من كتاب ربنا وسنة نبينا ولا تتعارض مع قيمنا وأخلاقنا.

- وأخيراً: نحذرك من شياطين الإنس الذين يصورون لك أن السير في طريق الإصلاح والحق مستحيل، وندعوك أن تحيط نفسك بالصالحين وتستعين بهم على محاربة الفساد والمفسدين، وتذكر أن العمر مهما طال قصير، وأنك ستقف يوماً بين يدي الله العظيم، فيحاسبك على كل تفريط أو تقصير أو مظلمة وقعت في عهدك، ويكافئك على كل خير وحسنة وإصلاح. ونسأل الله أن يوفقك إلى ما يحبه ويرضاه. - (الحقائق 13 تموز 2005) -