كم تمنيت أن أمسك بيد طفلتي الصغيرة إبتسام، وأدرج معها على طريق مخيم خان يونس لتسجيلها في المدرسة الابتدائية في مطلع عام 1985، ولكن إرادة اليهود حالت دون ذلك، عندما جاءت المدرعات المدججة بالجنود وحاصرت بيتي، وقامت باعتقالي.

بعد ثلاثة شهور من العزل والتحقيق، تفاجأ المحامي راجي الصوراني ـ يشغل حالياً رئس المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ـ بطلبي بأن يبلغ الأهل بعدم نسيان موعد تسجيل الطفلة إبتسام في المدرسة، وهذا ما لم يكن يخطر في بال المحامي عندما يلتقي بموكله لأول مرة، وقد انشغل بقضايا التعذيب المركز، والضغط النفسي المكثف، والاعترافات المحيطة به.

سنوات عبرت وأنا في السجن، ظَلّتْ خلالها الطفلة وفيّةً لي، تحافظ على زياراتي المنتظمة، وتوفر حاجاتي من الملابس والحنان، وتهون عليّ أمر الفراق، بالإضافة إلى كلمات أمي وهي تتردد في مسمعي: تعوض ذلك الحرمان يوم زفافها إلى زوجها بعدما تتحرر من الأسر!! لقد نمت سنوات من الحلم على البرش، وتحملت، إلى أن خرجت من السجن بعد التوقيع على اتفاقية القاهرة، وكانت ابنتي في المرحلة الثانوية.

أكملت إبتسام دراستها الجامعية، وراحت تستعد لمناقشة رسالة الماجستير، فجاء العريس الذي ارتضته، وارتضيناه، أستاذ في جامعة الأزهر، يسكن مخيم النصيرات في وسط قطاع غزة، وتم تحديد يوم الجمعة الموافق 31/12/2004، موعداً لاستقبال أهل العريس، والاتفاق على الخطوبة، ولكن قبل ثلاثة أيام من الموعد سبقهم الجيش الإسرائيلي، واستولى على بيتنا، وجعله موقعاً عسكرياً، ووضعني مع أفراد أسرتي البالغ عددهم أثني عشر في غرفة واحدة لمدة أربعة أيام بلياليها، ودمر وخرب الجيش الإسرائيلي وأفسد من ضمن ما أفسد موعد إعلان خطوبة ابنتي إبتسام.

صبرت، واحتسبت على أمل أن يعوض كل ذلك يوم زفافها الذي تحدد في يوم الأثنين25/7/2005، لتكتمل بذلك فرحتنا، وأعوضها عما حُرمت منه من أبوة، ومن نقص فرضه الإسرائيليون علي حياتنا، ولكن قبل الموعد بيومين أغلق الجيش الإسرائيلي الطريق الفاصل بين شمال قطاع غزة وجنوبه بعد عملية فدائية لرجال المقاومة!!

فماذا أفعل؟ لقد تصادف أن تكون ابنتي العروس محجوزة في الشمال، والعريس يسكن في الشمال، وترتيب الفرح قد أعد وفق موعد مسبق، فهل أوافق على استمرار الزفاف دون مشاركتنا، أم أصر على التأجيل حتى يرفع الحاجز، ونتمكن من المشاركة؟

سؤال محير، تساوي فيه الضرر والانتفاع، والخطأ والصواب، وتعددت فيه المفاهيم، والتقديرات، وكثرت فيه الاستشارات، وكان على أن أجمل خلاصة المشاورات مع ذوي الرأي سريعاً، وأن أحدد إما مواصلة الزفاف، أو التأجيل؟

كم كنت حزيناً وأنا أدعو شخصيات العائلة في شمال قطاع غزة للمشاركة في فرح ابنتي، والإنابة عني في إيصالها إلى بيت زوجها، لقد شق سكين الحاجز الإسرائيلي قلوبنا قبل أن يقسم حياتنا في قطاع غزة إلى نصفين، نصف شقي يتعذب، ونصف ينتظر الفرج، لقد حرم الإسرائيليون عليّ، وعلى أفراد أسرتي مشاركة ابنتنا فرحتها عشية زفافها!

ما يؤسف له؛ أن بعض الفلسطينيين ما زال يصر على تحميل الضحية مسئولية ما نحن فيه من معاناة وشقاء، ويبرئ عن وعي القاتل الحقيقي من الدم الذي يقطر من شدقيه، بعض الفلسطينيين ما زال يلوم الضحية، ويرفض أنه ينظر في عيني القاتل التي تشي بجرمه، بعض الفلسطينيين ما زال يصر على أن صراخ الضحية وأنينها تحت سكين الجزار هو السبب، البعض الذي ما زال يصر على أن الصمت عند تقطيع اللحم أبلغ. - (مفتاح 26 تموز 2005) -