شهد مجتمعنا في الآونة الأخيرة العديد من الظواهر السلبية التي أصبحت تشكل نمطاً متكرراً من السلوك الاجتماعي ليس على مستوى الفرد فحسب بل على المستوى الفصائلي والجماعي وهنا تكمن الخطورة. وسنتناول في مقالنا هنا ظاهرتين تهددان الثقافة التربوية والسلوك الفردي و الجماعي لمجتمعنا:-
- تتمثل الظاهرة الأولى في انتشار ثقافة الفوضى في سلوكنا اليومي والجماعي. فقد شهد قطاع غزة في السنوات والشهور الماضية بل والأيام الأخيرة تصرفات أصبحت تهدد سلامة المجتمع، وسير الحياة اليومية للمواطنيين. حيث يسارع أفراد وجماعات إلى السيطرة على مبانٍ عامة أو إغلاق الطرق والميادين الرئيسية في القطاع تعبيراً عن احتجاجهم على قرارٍ أو ضررٍ مس مصالحهم. فمثلاً شهدت مدينة خانيونس العديد من حوادث احتلال مبنى المحافظة أو إغلاق الطرق الرئيسية من قبل مجموعات من الملثمين احتجاجاً على فصلهم من أجهزتهم الأمنية، وقد أصبح هذا المشهد يتكرر مرات ومرات ربما خلال الأسبوع الواحد. كما شهدت مدينة رفح في الأيام القليلة الماضية نفس السيناريو باستيلاء مجموعة من المسلحين على مبنى المحافظة والمجلس التشريعي. كما تشهد الطريق الساحلي قرب وادي غزة حوادث متكررة من الإغلاق من قبل مجموعات متفرقة مما يهدد سير المواصلات العامة، ويحرم الآلاف من طلابنا وموظفينا ومرضانا من الوصول إلى مدينة غزة التي تعتبر شريان الحياة لجميع أنحاء قطاع غزة على اعتبار أنها مركز الجامعات والمستشفيات والوزارات بل والحياة التجارية أيضاً.
ويشكل ذلك بالطبع عبئاً وعقوبة جماعية تمارس ضد أبناء المجتمع من قبل مجموعات تدعي أنها الحريصة على أمنه وسلامته. ولم يتوقف الأمر عند حدود الأفراد وبعض المجموعات في ممارسة هذا السلوك بل تعدى ذلك إلى بعض الفصائل الرئيسية مثل حركة المقاومة الإسلامية حماس. حيث قام العديد من أفرادها في الأيام الماضية بإغلاق العديد من الطرق الرئيسية داخل قطاع غزة احتجاجاً على قرار القضاء الفلسطيني إعادة انتخابات الهيئات المحلية جزئياً في بعض مناطق قطاع غزة. وبالرغم من احترامنا لحق التعبير عن الرأي وحق الأفراد والجماعات وحتى الفصائل في الاحتجاج والإضراب على ضررٍ مس مصالحها فإنه من غير المنطقي وغير المقبول أن يتم هذا الاحتجاج والتعبير عن الرأي بهذه الطريقة التي تنم عن خلل في السلوك وفوضى في الثقافة. حيث يمكن الاحتجاج على قرارات المحاكم مثلاً أمام المجلس التشريعي أو مجمع المحاكم القضائية صاحبة الشأن، أو يمكن لأفراد الأجهزة الأمنية الاحتجاج أمام مقرات أجهزتهم أما السيطرة على المباني وإغلاق الطرق الرئيسية وتهديد سير الحياة اليومية للمواطنيين فهذا ضرب من الفوضى المطلقة التي تندرج تحت ظاهرة الانفلات الأمني في قطاع غزة. ويشكل ذلك بالطبع تهديداً ومساً بأمن المواطن الفلسطيني وعبثاً بالممتلكات العامة. وتهديداً للمنظومة القيمية والسلوكية للمجتمع الفلسطيني مما ينعكس سلباً على مستقبله.
- وتتعلق الظاهرة السلوكية الأخرى التي تهدد سلامة المجتمع بثقافة الضوضاء التي أصبحت تسود الشارع الفلسطيني. فقد تجاوزت هذه الظاهرة أيضاً السلوك الفردي إلى السلوك الجماعي الفصائلي. حيث نشاهد مثلاً العديد من أصحاب البسطات التجارية يجوبون الشوارع على كارات أو سيارات بيجو مصطحبين معهم مكبرات الصوت لبيع بضاعتهم من الخضروات والفواكه محدثين ضوضاءً عالية تسبب الإزعاج للسكان القاطنين في بيوتهم والذين هم بحاجة إلى ساعات من الراحة بعد عناء العمل لاسيما في ساعات القيلولة بعد الظهر. وعندما تتحدث مع بعضهم عن هذه الضوضاء يبادرك بالقول: وهل تريد قطع رزقي؟ ويندرج ضمن ذلك أيضاً صراخ بائعي الحليب عبر مكبرات الصوت في ساعات الصباح الأولى ليشكل ذلك إزعاجاً وأيما إزعاج للأطفال والمرضى النيام. ولسان حالنا يقول: إن أحداً لا يريد قطع رزق أحد ولكن أيضاً طفح الكيل من هذا الإزعاج الذي لا ينقطع ليلاً أو نهاراً. فعملية الشراء والبيع لها أوقاتها وأماكنها المخصصة لذلك ولا يعقل أن تباع البندورة والخيار في أزقة الحارات، ويعلو الصراخ عليها أمام بيوت الله حتى قبل أن تنقضي الصلاة. وقس على ذلك ما يحدثه بائع الغاز ومشترى الخردة ... الخ ، وأضف إلى ذلك الضوضاء التي تحدثها أبواق السيارات لاسيما الكبيرة منها عند أدنى ازدحام، أو ما تحدثه صالات الأفراح التي تقام بين التجمعات السكنية. وكما قلنا فقد تجاوزت الضوضاء السلوك الفردي إلى سلوك جماعي فصائلي حيث تخرج الفصائل ما يعرف "بسيارات الإذاعة" للإعلان لساعات وربما لأيام عبر مكبرات الصوت عن مسيرة هنا أو مهرجان هناك مع ما يتخلل الإعلان من أغاني وربما خطب حماسية تكثر بها عبارات التهجم وكيل الاتهامات على الآخرين. والطامة الكبرى أن كل هذا الإزعاج الذي يهدد السكون والسكينة التي يطمح المواطن إلى تحقيقهما في الليل والنهار قد أضحى ظاهرة سلوكية تمارس دون أدنى شعور بالخجل أو تأنيب الضمير وكأن المجتمع قد أصابه الجمود والبلادة تجاه حقوق الآخرين.
وهنا نوجه نداءً إلى المجتمع الفلسطيني بأفراده وفصائله بالعودة إلى رشده، وتعديل سلوكه اليومي الممارس الذي يهدد سلامته ومستقبله. وأن يعود إلى منظومته القيمية التي حثنا عليها ديننا القويم وعاداتنا وتقاليدنا السمحة التي تربينا عليها وأصبحت تائهة الآن في غياهب الفوضى والضوضاء التي يبدو أنها قد أصبحت سمة ملاصقة لنا. - (الحقائق 4 حزيران 2005) -