بصبرٍ يشارف على الانتهاء على ما تقترف أيادينا, نعيش في هذا الوطن الممزق, حتى ضاقت صدورنا على الاحتمال, فيما ترتسم ملامح المأساة على وجوه كل العقلاء, الذين يشعرون بحجم الانزلاق الذي يسير بالمجتمع إلى حيث لا نعلم, بعدما أصبحت ظواهر الفلتان المتعددة تتأصل على أساس فكرة, يحملها أولئك العابثين بأمننا و حياتنا و حاضرنا و مستقبلنا, في الوقت الذي يتخيل كلٌ منهم أنه و ليس سواه, باعث الضياء و قاهر الأعداء و حادي الفداء.
ليس عدلاً أن تبقى الأفواه مكممة, عن التعرض بكلمات صادقات لما يجري على الأرض, خوفاً من حساباتٍ اعتبارية, أو انتظاراً لأن يكشف الله سبحانه و تعالى الغمة عن عباده دون أن يسعوا هم لذلك, أو انطلاقاً من القاعدة الشعبية "ضع رأسك بين الرؤوس... و قل يا قطاع الرؤوس", فالأزمة الآن تأخذ أبعاداً مع امتدادات الزمن الساعي إلى التقدم, لتصبح دون أن ندري, نهجاً يومياً أصيلا في تفاصيل حياتنا اليومية بفلسطين الضائعة على أكثر من صعيد.
ليس منا من يستطيع إنكار ما آلت إليه الأوضاع الأمنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى تردي و انهيار, على حساب حياة و أمن المواطن و استقرار المجتمع, بفعل السلاح المحسوب زوراً على المقاومة تارةً, و على المؤسسة الأمنية الرسمية تارةً أخرى, دون مقدرة أُولي الأمر على المحاسبة و المسائلة الحقيقية, و ذلك لأن عزةً بالإثم تسيطر على عقول من يميلون إلى الاستتار تحت جناح المقاومة, التي هي من بعض أفعالهم براء, في حين يوازيه ضعفٌ و ركون يسكن الشخصيات القيادية في مؤسسة الأمن الفلسطيني, التي ينبغي لها أن تمارس دورها كما هو مطلوب, و هذا هو المبتغى المفقود.
كنا قد استبشرنا خيراً عندما جاء اللواء نصر يوسف وزيراً للداخلية, بعد أن منينا أنفسنا بأمنيات عريضات, في انحسار الفجوة بين المواطن و أجهزة الأمن, و كي تسيطر تلك الأجهزة على مجريات الأمور بالاستناد إلى القانون, وصولاً إلى دولة القانون, التي تحفظ كرامة المواطن و دمه و ماله و عرضه,,, و لكن الذي حدث أثبت أن ثقتنا التي أوليناها لأصحاب القرار في المؤسسة الأمنية كانت في غير محلها, لأن وزير الداخلية لم يستطع أن يُدخل الأجهزة في بيت طاعة وزارته, لتصبح نشازاً لا تجد من يحكمها, في الوقت الذي تتصارع فيما بينها و تتجاوز أمام الكاميرات, على كل ما من شأنه أن يكون مدعاة احترام لنا أمام العالمين .
فاليوم نكتشف أن كل ما قيل حول ضبط الساحة الفلسطينية كان مجرد شعارات, لم تتعدى وظيفتها تخدير المشاعر إلى حين,,, فمن يرضى أن تخرج مسيراتٌ مناوئة لقراراتٍ مركزية صدرت عن وزير الداخلية, دون أن يستطيع الوزير تحريك ساكن ؟ و من يقول أن يهاجم أفراد جهاز أمني مقر جهاز آخر دون الاكتراث لنتيجة فعلهم, حتى و لو كان ذلك على حساب دماء إخوتهم ؟ و أي عقلٍ يتقبل أن يكون مقر رأس السلطة الفلسطينية عُرضة لإطلاق نارٍ بين الحين و الآخر, من غير وضع حدٍ لهذا التسيب؟ و من منا يصدق أن يتهم وزير الداخلية أفراد أجهزة وزارته الأمنية بالعمل أو الارتباط مع جهاتٍ خارجية دون أن يملك الدواء بعد أن شخص الداء؟ أي سخفٍ هذا الذي نسمع ؟ و أي ضعفٍ هذا الذي نعيش؟
ليس مطلوباً من وزير الداخلية أن يكون رجل سياسة, و لكن المطلوب منه بإلحاح الوجع, أن يتحرك نحو تطبيق الأمن, ابتدءاً من الدوائر المكلفة بحماية الأمن العام, لأن المصيبة تتعاظم مع انحسار عمل الأجهزة الأمنية في العمل لحساب أشخاص و مصالح و "كولسات", فيما المرحلة تؤكد حاجتنا إلى وزيرٍ قوي للداخلية, يقدم و لا يحجم, يسير و لا يتقهقر, و لا عيب إن نَصَبَ ميزان عدل الحجاج بن يوسف الثقفي, و أقام حدود القانون على كل المسيئين, إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً, و هذا خير لنا من أن نصل إلى حدود الفضيحة, و لاسيما أننا مقبلون على مرحلة مفصلية في تاريخ الشعب الفلسطيني عند الانسحاب بعد شهرين من الآن.
و ليس من شك أيضاً أن تكون بعض الفصائل سبباً في تدهور الوضع الأمني, لأن شيئاً لا يجبر أفرادها على حمل السلاح في غير وجه العدو, سوى العنجهية و التسيب و الاستهتار بحياة و أمن الناس, لأننا نعرف أن مهمة سلاح المقاومة تنتهي بمجرد الخروج من ميدان القتال و انتهاء المعركة, الأمر الذي لا يدع مبرراً في أن نرى البنادق في أيدي من لا يقدرونها, من هواة الاستعراض الأجوف على أبناء جلدتهم, أو من يتخيلون أنهم مكلفون بفرض الآداب و الحشمة و مكافحة الفساد بجموحٍ عقلي لا يمت للفضيلة بشيء, أو أولئك الذين يستعيرون بنادقهم من بعضهم البعض, كالبندقية التي أعرفها جيداً, و علامتها أن الحزام أو "الكتافية الزيتية اللون", التي يحمل بها المسلح بندقيته على كتفه, مكتوب عليها "بحبــك يا نادية", قد انتقلت إلى أكثر من كتف, ففي العادة كنت أراها مع أحد "المغاوير" الذي ألتقيه في إحدى المقاهي التي أتردد عليها, إذ كان يجلس و يشد على النارجيلة في الأوقات الأكثر سخونة فيما مضى عند الإشتباكات المسلحة, و قد رأيتها من خلال من هو مكتوب على حزامها في يد فارسٍ آخر في استعراض مسلح غير مبرر, ناهيك عن انتقالها إلى أحضان بعض الصبية القريبين من المغوار الأول الذي استخدمها أحدهم للتهويش في مشكلةٍ شخصية, فلم أستطع تبرير الأمر أو تفسيره, فربما يكون لنادية أكثر من عشيق , و إن بعض الظن إثم !
* الكاتب صحافي مقيم في غزة . thawrah211@hotmail.com - (مفتاح 10 حزيران 2005) -