أخي أبا مازن. عملا بالقول.. صديقك من صَدقك.. اكتب اليك.. وحين تنشر هذه الرسالة.. أكون في الممر بين غرفتي في المستشفى وغرفة العمليات.. حيث ستجرى لي جراحة لا اعرف كم رقمها.. بعد سنة من الجراحات الموجعة في الجسد والروح. ويقيني، أنك حين تقرأ رسالتي هذه، فلن تسيء الظن بأي حرف فيها، ولو أسأت الظن. يكون آخر نموذج للخير في صداقتنا قد انهار، فأنت تعرف بالضبط.. نظافة علاقتي بك، وعمق محتواها، ونبل اهدافها إنها علاقة رجال وقفوا في وجه العواصف والأنواء وليست علاقة سابحين في بحر هادئ.. يمتطون التيار .. ويعومون على سطحه. وقبل ان انتقل الى مخاطبة الرئيس، الذي هو انت، احب ان اسجل كلمات شخصية، عن مشاعر ظلت محفورة في روحي، يوم لم يتبق في جسدي سوى قطرات قليلة من الدم، اي حين زارني الموت في تلك الليلة الصيفية، وكنت مصعوقا لهول ما رأيت وبين الغيبوبة والصحو.. كنت اراك.. وبلغة النظرات دون كلام قلنا لبعضنا البعض، انها رسالة مشتركة لي ولك.. اذ يبدو اننا في ذلك الوقت، دخلنا الخطوط الحمر.. سيادة الرئيس. حين عدت من المرحلة الاولى للعلاج، سألني كثيرون.. ماذا ستفعل، وكنت اجيب على الفور.. "كل شيء يؤمن نجاح ابي مازن".. لم تكن معركة الرئاسة صعبة.. ولم اجد مثل كثيرين غيري، عناء في حملتنا التي رغبنا فيها ألا تتجاوز اصواتنا حدود الستين بالمائة..

ومن خلال متابعتي. لاهداف من كتبوا اسمك على ورقة الاقتراع.. وجدتها اهدافا بسيطة ولكنها حين توضع في مفاعلات التطبيق.. تتخلى عن بساطتها.. لتبدو مواضيع امتحان صعب.. حين تضع رهاناتك في مرحلة تاريخية على شخص محدد، فإن الخوف من سقوط الرهان يظل يلازمك. ليس من قبيل الشك، او الاستسلام للهواجس، وانما من قبيل الخوف على الرهان نفسه... وهنا سيدي الرئيس، نقيس ما تحقق من رهاننا، بمقياس واقعي واحب ان يكون شعبيا قدر المستطاع.. فماذا يقول الناس عن رهانهم.؟ وعمن راهنوا.؟ هنالك تسليم بأنك رجل مخلص... وهنالك تعاطف معك، وانت تحاول تفكيك الالغام الموروثة منذ عقود.. وهنالك كذلك تفهم لأخطاء كثيرة، ربما يكون دافع تفهمها هو الرغبة التلقائية في تجنب فقدان الامل والاضطرار الى بدائل غامضة مجرد التفكير فيها يدفع الى الرعب. ولكن في نهاية المطاف.. يرى الجميع واقعا يضغط بقسوة على النفوس. ولا يبالغ احد حين يقول.. "انها الشهور الاصعب في تاريخ الشعب الفلسطيني". لا اريد الدخول في تفاصيل "لماذا الاصعب" فأنت اكثر من يعرف.. ولكن بالامكان اختصار الحالة بمفردات قليلة.. "انه فقدان الأمان وتراجع الأمل".. - فقدان الأمان.. دفع برئيس الوزراء الى التهديد بتعليق اعمال الحكومة، وهذا امر غير مسبوق في اي زمان ومكان. وتراجع الأمل.. قد يدفع بالمواطن الى تعليق عضويته في الوطن، فذلك فقط ما بقي عليه ان يفعل بعد كل ما حدث.. لست انت من يتحمل المسؤولية عن هذا، فالأمر اكثر تعقيدا، وتشابكا، وهولا... غير انك تملك شرعية المحاولة.. وحتى الآن.. تبدو المحاولات متعثرة ولا احب استخدام مفردات اكثر قسوة.. ولعل تعثر المحاولات، وارتدادها في حالات كثيرة الى عكسها ناجم عن الافتقاد لخطة عمل متكاملة، وادوات عمل فعالة لتنفيذ هذه الخطة واكثر ما ارجوه مخلصا، ان تكون هنالك خطة لا اعلم بها وادوات عمل لا اراها.. ولكي لا اصادر محاولاتك المخلصة، التي لا اشك في جدية تعاطيك معها، فانني اذهب الى الاستنتاج بأنها تبدو طموحة وقوية في البداية، الا انها تذوب او تتلاشى في بحر الفوضى الذي ما زلنا نعيش فيه، ونواصل السباحة العبثية بين امواجه الصاخبة.

ودعني هنا سيدي الرئيس، افرق بين ما يحدث على المستوى السياسي بمعنى.. ما تحقق من انجازات هائلة على صعيد العلاقات الحيوية مع القوى الفعالة في عالمنا وشأننا.. وهذا امر لا جدال فيه، وبين وضعنا الداخلي، الذي يجعل من كل انجاز سياسي مهما عظم مجرد كتابة على رمل.. تذروه رياح الفوضى وانعدام المسؤولية، والعجز عن توفير الحد الادنى من فاعلية المؤسسة بأي اتجاه. واسوق لك مثلا يا سيادة الرئيس.. بينما كان الرئيس جورج بوش، يخاطبك بسيدي. ويعدك بالكثير، قافزا من فوق كل تحريضات شارون عليك، كانت ساحة الوطن، ملعبا لكل انواع الفوضى وحتى الاشتباكات المسلحة وحين يرى العالم هذه الصورة، فلن يتوانى عن اغداق الوعود، تاركا امر تبديدها لنا، فما اسهل ان يقول لك جورج بوش في الرحلة المقبلة الى اميركا.. "نعم.. لقد وعدتكم ولكن المشكلة فيكم.. سيدي الرئيس".

واذا كان الشأن السياسي اضحى ملكا لكثيرين معنا فلم لا نوجه انتباهنا لما هو ملكنا بمفردنا.. وهو شأننا الفلسطيني.. والى ان تثمر جهودنا الحثيثة لفتح المسار السياسي، لم لا نوجه جهدا جديا لتطوير حياة انساننا الفلسطيني، فوق ما تبقى له من ارض، وما تبقى له من هواء. دون ان تنسى ان استعادة ما لنا من حقوق، تتطلب مواطنا سليما وليس معطوبا يدفع من نفسه ثمن الاحتلال، وثمن سوء استخدام ذويه للسلطة.. لم لا نفكر في مدارسنا وجامعاتنا، حيث التراجع المأساوي في المستوى، ولم لا. ما دام طلابنا يعيشون كل حالة الفوضى والانحدار وما دمنا في غير وارد بناء مدرسة جديدة او جامعة، ما دامت الدول المانحة اوقفت البناء!! لم لا تبادر سيادة الرئيس، الى إهداء الشعب الفلسطيني ما يحتاج من مدارس، كي لا يستمر الاكتظاظ المرعب، والذي بلغ حد ان الشعب الذي يحتل اعلى نسب التعليم في المعمورة، يتعلم ابناؤه في الخيام، والغرف المظلمة. لم لا تبادر سيادة الرئيس، الى إنقاذ مرافقنا الصحية من حال البؤس التي تردت اليها، في وقت بلغت تحويلات السلطة للعلاج في الخارج ما ينشئ اهم المستشفيات ويستدعي افضل الخبرات. لم لا تبادر سيادة الرئيس، الى الامر بإعداد خطة عاجلة، لاستكمال البنية التحتية، وايصال الماء والكهرباء الى كل قرية في الوطن، واستكمال الطرق، التي يكلفنا حالها المتدهور ارواحا واموالا لا حد لها..

فيما مضى كنا نقترح امورا كهذه، وكان يقال لنا من اين نأتي بالمال.. اما الآن.. فبوسعنا القول.. اننا وجدنا المال.. لقد ابلغنا وزير المالية، الذي هو في ذات الوقت، رئيس صندوق الاستثمار، المملوك جملة وتفصيلا للسلطة ان هنالك ما يربو على المليار دولار. وان الخطط التي وضعت لتطوير عمل الصندوق، اثمرت ارباحا طائلة وصفت بأنها غير متوقعة.. فلم لا تأتي ببعض هذا المال من اجل البنية التحتية.. ولم لا نقترض في زمن، يعفو العالم فيه عن ديون الفقراء، اذا ما تأكد انها انفقت في التنمية وليس في مجالات اخرى. ان الاستثمار ببناء المدارس والجامعات والطرق.. والصحة، هو ما انشئ صندوق الاستثمار من اجله، فمتى اذن يستفاد من موجوداته وارباحه فإن لم يكن الآن.. فمتى..

سيدي الرئيس.. لقد وعدت، ولا يشك احد في اخلاصك لما وعدت، وصدقك فيما نويت.. بأن تجعل المؤسسة هي هيكل واطار ومحرك نظامنا السياسي.. ولقد سعد المواطنون وخاصة الطيبين منهم وهم الغالبية العظمى بهذا الوعد، واملوا رؤية مؤسسة امنية جديدة وفعالة، ورؤية مؤسسة ادارية حيوية ومتجددة، ومؤسسة قضائية تفرض هيبتها واحكامها على الجميع، وبالطبع مؤسسة رئاسية تشكل حاضنة العقل القيادي.. ومطبخ القرارات السديدة والتوجيهات المدروسة. لا اريد القول.. الى اين وصلنا في ذلك، فأفضل التقديرات تضع الامور في مستوى منخفض.. ويبدو ان ليس لنا من ذريعة سوى القول.. اننا ما زلنا في البدايات، وستة اشهر في حالنا ليست برهة وجيزة، هي ليست كذلك في اي مكان وزمان، انها ضعف المدة المصطلح عليها لتقديم تقرير عن الانجاز. واذا ما سلمنا جدلا بانها مدة غير كافية لرؤية انجاز، فهي بالتأكيد اكثر من كافية لرؤية خطط وتوجهات وقرارات.. فأين ذلك كله من الواقع.. انني اقرع جرسا، سبقني الى قرعه، مواطن قتل ابنه وتلقى اعتذارا لأنه قتل بالخطأ، وقاض تراكمت القضايا في محكمته دون بت، وحتى التي تم البت فيها لم تجد آلية للتنفيذ. ومريض، لم يتسن له علاج عصري في الوطن، ولم يتمكن من الذهاب الى الخارج.. وقرية لا تزال دون انارة في القرن الحادي والعشرين وقرى عطشى رغم جودة مواسم المطر..

انني كتبت في "ابو مازن" وعنه ومعه، وتلمست له اعذارا في كل ما لم يستطع تحقيقه حتى الآن.. وسأظل على ثقة بانه هو الرجل المناسب في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، غير انه فوق ذلك كله، بحاجة الى من يقول له الحقيقة حتى لو كان يعرفها.. والحقيقة التي ارغب ان انهي مقالتي بها.. هي.. ما زال الوقت مناسبا لتدارك كل ما اخطأنا فيه جميعا.. ولكن.. بخطة متكاملة وآليات عمل، فلتشرف يا رئيسنا ورهاننا على وضع هذه الخطة، وما يلزمها من مال ورجال، ولتحول الوطن منذ اليوم الى ورشة عمل، وليس الى مجرد مكان لا يرى فيه المواطن سوى جدل كلامي، وقهر يومي .. وانعدام للامان، وتراجع للامل ان الفلسطينيين لا يستحقون ذلك. وانت من جاء محمولا على اجنحة الامل.. ابدأ.