تموج إسرائيل في هذه الأيام غضباً مع اقتراب موعد إخلاء المستوطنات في شهر آب ، و يحضر المستوطنون لمسيرات واحتجاجات واعتصامات لشل الحياة العامة هناك. حالة من الغليان تسود أوساط المستوطنين يمتزج فيها الإيمان الديني الأعمى المتطرف القائم على تقديس المِثل و الفوقية المتغذية على أسطورة الشعب المختار والتعاليم الدينية المبنية على معاهدة أرض الميعاد مع الرب، مع الانتماء الوطني الذي يعتقد بأحقية امتلاك الأرض وما عليها كحالة وراثية ممتدة عبر آلاف السنين.

ومع امتزاج الديني بما هو وطني تترسخ حالة مشوهة من التحجر الفكري ضد كل ما يشكل صوت الحقيقة بشواهدها التي تضج بها الأرض ويزخر بها التاريخ و تنادي بها العدالة. و تنعمي و تتعامى العيون عن رؤية دلالات لم تستطع عقود من الاحتلال و الاستيطان طمسها لأنها تقبع في ضمير الأحرار و الشجر و الحجر وتنتشر في الهواء الذي يتنفسه المستوطن و المحتل كل يوم لتشكل له كابوساً يذكره بغرابته عن هذه الأرض و بضحالة عقيدته الأسطورية فتتركه ليتخبط و يتصادم مع ذاته و ليهدم معبده بيده.

المستوطنون و اليمين المتطرف الذي يتغلغل في أوساط المؤسسة العسكرية يحضرون لعصيان مدني و عسكري. يقولون لشارون لن تمروا مرور الكرام، هم في داخلهم يعرفون أنها الهزيمة الكبرى للفكرة الصهيونية التوسعية و للعقيدة الاحلالية. و في السياسية يوقن شارون حق اليقين بأنها الهزيمة القاسية سواء أنجحت السلطة الفلسطينية في تأجيل الانتخابات أم لم تنجح و سواء أكانت حماس جزءاً حيوياً من النسيج السياسي الفلسطيني أم لم تكن، فهي هزيمة بكل المقاييس. و هم سيهدمون بيوتهم بأيديهم وسيرحلون و ستبقى محفورة في التاريخ بأنها الهروب من الجنوب كما كان الهروب من الشمال عام 2000 .

في يوم الرحيل سيبكون و سينتحبون و سيأكل احدهم الآخر مع أن العويل قد بدأ منذ الآن، فمملكة الرب في نظرهم تتهاوى و تلك القلعة الحصينة التي حاول العرب جادين و غير جادين إغراقها في البحر على مدى 50 عاماً و فشلوا الآن تؤخذ من الداخل وتنكب أرجائها على بعضها البعض في بداية دمار قد يشهدوا بدايته و لكن لن يشهدوا نهايته.

لكن ما بال البعض يبكي لبكائهم و يشدهم إلى الأرض أكثر مما تشدهم توراتهم و ينتحب فوق جروحهم كما لو كانت جراحته. هي المقاومة التي تطاردهم وهي التي ستخرجهم وهي بعض الأبواق السلطوية التي تستمهلهم الرحيل . وإن كان الانفصال أحاديا أو ثنائياً فمتى كان الاندماج بداية؟؟ وإذا كان الحديث عن فك ارتباط فعن أي حلقة وصل كانت قائمة يتحدثون. أم هي وصلات و اتصالات السادة من سلطة أوسلو و إسرائيل. حجة السلطة لا تستقيم مع منطق و لا تستوي مع عقل، و خشيتهم من فراغ يتحدثون عنه و الفوضى تضرب أطنابها في مؤسساتهم لا ينسجم مع أي تعريف وطني تربى فوق تلك الأرض.

السلطة تحضر نفسها أمنيا للسيطرة على مناطق الانسحاب أو إعادة الانتشار و جميع هذا يمر من بين يدي دحلانً .هي تسرق نصر المحرومين و نضال المطاردين و تسجل لنفسها انجازات حققتها المقاومة. السلطة تتخبط في معاركها الدونكيشوتية التي لا تمس عصب الحياة و التي لا يعرف عنها أحد. هي تتستر خلف مفهوم بسط الأمن لتعني به إعادة الكرة لحكم القهر و النهب و السلب و ليس الأمن الذي يعرفه المواطن وهو أمنه على ماله وحياته.

هي نفس المعادلة التي عرفناها عن السلطة فقد غابت خمس سنوات عن العمل الوطني و أججت وروجت للانفلات و عندما أيقنت بأن إسرائيل ماضية في تفكيك إطرافها طفت إلى السطح مجدداً لتلعب في وقتها الضائع فما نالها إلا تنظيف بقايا المستعمرات بعد إخلائها.

المقاومة أنجزت المهمة و دفعت إسرائيل لبتر أعضائها بنفسها، فلا تبكوا عليهم و دعوهم يذهبون و لا تميلوا عليهم لتكتسبوا شرعية البقاء في مؤسساتكم أو التذمر من عصابات منفلتة من عقالها تربت في حجركم. فكما التهمت الثورة أبنائها بإمضاءاتكم ستلتهمكم الأرض بعد أن يخلوها.

هذا نصر يسجل للمقاومة ولدماء مئات الشهداء و الجرحى و المعاقين وله استحقاقاته فهل فكرت السلطة بهذه الاستحقاقات؟ - (الحقائق 29 حزيران 2005) -