كان الـمشهد مؤثرا. الشيخ نصر الله، يخطب في مئات الآلاف من اللبنانيين مشيدا بسورية وبدورها في لبنان لكن مودعا لها في الوقت نفسه. لـم يكن الخطاب الحماسي جملا ثورية فارغة الـمضمون، بل كان خطابا سياسيا يلامس جوهر التطورات السياسية في الـمنطقة ويركز على الجانب الذي يبدو للبعض مغيبا في السياسة الأميركية أو على أقل تقدير لا تتعامل معه هذه السياسة بنفس الحزم والتصميم الذي تبديه تجاه قضايا الحرية والديمقراطية في العالـم العربي، وهو الصراع العربي الاسرائيلي. رسالة نصر الله، من لبنان: هي رسالة "رفع همم" للقيادة السورية بأن عليها أن لا ترتجف من التهديد القادم عبر الأطلسي.
لكن الرسالة الأهم في تقديري هي تلك الـموجهة للعالـم: بأن حزب الله يقبل بالعملية السياسية وبالواقع الجديد في الـمنطقة لكنه لن يقبل بأن يكون الثمن هو بقاء الاحتلال جاثما في فلسطين وفي الجولان وفي مزارع شبعا. ليس هنالك تفسير أقرب من ذلك لتلك الجملة الاهم في خطاب نصر الله "ما لـم تستطع أن تأخذه اسرائيل بالحرب لن تتمكن من أخذه بالسياسة". حزب الله يقبل بدخول لعبة الـمفاوضات السياسية ويدعم توجه سورية والحكومة اللبنانية فيها، وهو يؤكد فقط أن نتيجة هذه "العملية" يجب ان تكون الخلاص النهائي من الاحتلال وهو ما يجب التركيز عليه.
في الجانب الاخر من الاطلسي، كان الرئيس بوش، يخطب في مدرسة عسكرية في واشنطن: الحرية والديمقراطية تتقدم في العالـم العربي، مصر والسعودية تظهران تقدما بطيئا في هذا الاتجاه لكنه ملحوظ ، لبنان فيها حركة شعبية تطالب بإنهاء "احتلال" سورية للبنان وعلى الأخيرة الانسحاب إذا ما أرادت تفادي الـمزيد من العزلة الدولية، عباس يحارب الارهاب وأميركا ستدعم جهوده في هذه الطريق، واسرائيل عليها أن تتوقف كليا عن بناء الـمستوطنات وان تساعد في قيام دولة فلسطينية متصلة قابلة للحياة.
في الشرق الأوسط سياسات شديدة التعقيد والتعارض. سياسة الرئيس بوش، التي تريد تغيير النظام العربي الرسمي بأنظمة جديدة ذات قاعدة شعبية عربية، متجاوزة بذلك عقدة الخوف التاريخية من بعض الاطراف التقليدية الـمحافظة في واشنطن التي تقول بان الاستقرار في الشرق الأوسط أهم من الحرية والديمقراطية لشعوبه، وان النظام الرسمي الحالي هو ضمانة هذا الاستقرار، وهو الضامن لاستمرار إمداد العالـم الصناعي بالطاقة، وهو القوة الـمانعة التي تعيق استيلاء الاسلاميين على الحكم، وهو أيضا وبشكله الحالي يشكل حماية لإسرائيل من الـمجهول الذي قد يأتي عبر انتخابات حرة ونزيه. هنا يمكن الافتراض بأن الإدارة الأميركية ليست ساذجة وهي تدرك بان نجاح مشروعها لا يتوقف فقط على نشر "الحرية والديمقراطية" ، وإنما على حل الصراع العربي الإسرائيلي أيضا، فأي نظام بديل للنظام العربي الرسمي، الحالي، سيستند على قاعدته الشعبية التي ستطالبه بقطع العلاقات مع اسرائيل وبمساعدة الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين إلى أن تتخلى اسرائيل عن احتلالها.
إسرائيل من جانبها تدرك جدية الـمشروع الأميركي، وتدرك أيضا بأنها تستثمر فيه مئات الـمليارات من الدولارات وكما كبيرا من الدماء، وهي تعلـم بأن سقف الـمشروع أكبر من مجرد تأمينها وحمايتها وأن عليها في نهاية الـمطاف أن تدفع جزءا من الفاتورة بانسحابها من الأرض التي تحتلها. لكن حكومتها الحالية لا ترغب في معارضة الشق الثاني من الـمشروع علنا، فهي تأمل بإيقافه أو بديمومته في الـمرحلة الاولى منه، "محاربة الارهاب ونشر الديمقراطية في الشرق الاوسط"، مستغلة الوقت ومهدرة له أيضا في بناء الجدار، والـمزيد من الـمستوطنات، والـمضي في سياسات تهدف الى تأخير أية مفاوضات جدية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإلا ما معنى أن يتم التفاوض حول استلام كل مدينة فلسطينية على حدة، وما معنى تحميل السلطة الوطنية مسؤولية الامن عن مناطق لا يسمح فيها لقوى الامن الفلسطينية بحرية الحركة او بحمل السلاح علنا، وما معنى تأخير الافراج عن الاسرى. ما معنى البقاء في مزارع شبعا اذا ارادات سلاما مع لبنان ، وما معنى أيضا رفضها التفاوض مع سورية واستمرارها في احتلال الجولان. لحكومة إسرائيل خطة واحدة هي الانفصال أحادي الجانب وبناء الجدار والاستيلاء على القدس وهو ما يجب أن ينتبه له العالـم وإدارة الرئيس بوش تحديدا.
النظام العربي الرسمي من جانبه مضطر للإنحناء أمام العاصفة، لكنه ينحني ويصارع للحفاظ على بقائه في نفس الوقت، وقد تجلى ذلك بوضوح في طلب الاشقاء غير الـمعلن من سورية بمغادرة لبنان وبعدم احراجهم باتخاذ موقف معلن من القرار 1559 سواء أكان ذلك باتجاه القبول أم باتجاه الرفض، وهو بذلك قد أظهر حالة الضعف التي تعتريه. النظام الرسمي بشكل عام يعلن بأنه جاهزللتعامل مع جميع القضايا الـمطلوبة منه، ولا توجد لديه شروط مسبقة لذلك، ويكتفي بالامل بأنه إذا ما "قدم السبت، فسيجد الأحد". وهو بذلك واهم لأن الـمطلوب منه تقديم أيام الأسبوع جميعها، فالـمطلوب تغيير عميق في الهيكل، يبدأ من رأس الهرم الى قاعدته، حيث القوى الحية فيه قادرة على الصعود إلى القمة بالوسائل الديمقراطية السلـمية.
هنا من الـمناسب تذكير واشنطن بأن التاريخ لـم يعرف ديمقراطية واحدة في العالـم تخلت عن اراضيها، ولن تكون دول الشرق الأوسط "الديمقراطية" الاستثناء لهذه القاعدة. إن دعم قوى الـمجتمع الـمدني والاحزاب السياسية العلـمانية التي تؤمن حقا بالديمقراطية يتطلب من الإدارة الأميركية مساعدتها على التحرر من هيمنة الخطاب االبديل الذي يفرضه استمرار الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية، ولا يمكن التقليل من شأن هذا الخطاب وقوة تأثيره في كسب العقول والقلوب في العالـم العربي. إن التحرر من لغة الصراع بإنهاء الاحتلال هو شرط لا يمكن الاستغناء عنه لضمان تقدم غير قابل للتراجع والانتكاس في مشروع الشرق الاوسط الجديد. والـمطلوب هنا ليس وقف الـمشروع الذي بدأ من العراق، وإنما الاستفادة منه وهذا ممكن بإبداء وضوح أكثر تجاه الاهداف النهائية له، وبالقول صراحة وعلنا لاسرائيل بان عليها الانسحاب من جميع الاراضي التي تحتلها وان هذا جزء لا يتجزأ من مشروع الدمقرطة الـموعود. إن هذا الوضوح سيساهم في تغير مواضيع النقاش ولغة الاستقطاب السياسي في العالـم العربي وستكون جميع القوى السياسية مجبرة على طرح برامج اجتماعية واقتصادية وسياسية حقيقية للجمهور الذي سيختار ممثليه وقادته بناء عليها.
إن قبول الادارة الاميركية بنتائج الانتخابات في العراق التي نجحت فيها القوى الإسلامية وعدم محاولة تزويرها كما توقع البعض ، هو مؤشر ايجابي على الاستعداد الأميركي للتصالح مع التيار الاسلامي الـمستنير في العالـم العربي بدلا من دفعه الى أحضان التطرف و"الارهاب". والتصالح هنا لا يعني فقط قبول مشاركته في العملية الانتخابية ونتائجها، وإنما يجب الاعتراف أيضا بأن الاحتلال الاسرائيلي هو سبب رئيسي للتطرف، وهو سبب يجب الخلاص منه بالتعامل معه بشكل عاجل ومباشر وموضوعي. والتنظيمات الاسلامية من جانبها عليها ان تتوقف عن طرح شعارات ليست عصية على التنفيذ فقط وانما تساهم في إقصائها عن الـمشاركة الفاعلة في رسم شكل وجوهر الشرق الاوسط الجديد وهي مدعوة لعقلنة خطابها السياسي بقبولها للاخر ورفضها لاحتلاله وهي مواضيع لا تتعارض مع بعضها البعض. - (الأيام 10/3/2005) -