يُنهي بيتر هانسن، المفوض الأعلي العام، للأونروا، مهمته، وسط تقدير الفلسطينيين، لأمانته في أداء واجبات عمله. وفي صباح أمس (الأحد) كان في وسع الرجل، أن يتحسس مشاعر الناس، من خلال حفل الوداع، الذي أقيم له، في نادي "الخدمات" في معسكر الشاطئ، في غزة. ولمجرد وداعه بحفاوة، علي الصعيد الفلسطيني، يكون بيتر هانسن، قد اختتم تجربته مع طرفي الصراع، وذهب بانطباعاته عن كل الحقائق. ونحن لم نحترم بيتر هانسن، علي أية أرضية سياسية. فالرجل أدي مهمته بنزاهة، ولم يكن منحازاً لنا، وإنما كان شخصية نبيلة، احترمت مهمة الأمم المتحدة ورسالتها. وهذا بحد ذاته، لا يُرضي المحتلين. وكان ضرورياً أن يعرف بيتر هانسن، أن الأونروا نفسها، هي هدف الهجمة التي تعرض لها، وليس شخصه، حتي وإن كانت قد أزعجتهم، قراءاته للحقائق علي الأرض. ذلك لأن الاتهام الذي دأبت الأوساط الصهيونية علي ترويجه، هو أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، هي الأولي في العالم، من هذا النوع، التي تضع نُصب عينيها، هدف إدامة وضع اللاجئين كلاجئين. ولم يكن بيتر هانسن، مستعداً للإسهام في مؤامرة، لتغيير الوضع القانوني للناس، ولم يكترث لكل الحيثيات السياسية التي مرت، منذ أن تأسست الوكالة في شهر كانون الأول من العام 1949. فقد اعتبر المحتلون، أن الأونروا، صاحبة فلسفة مضادة للتسوية التي يريدونها، ثم جاءت الانتفاضة، لكي يجعلوها في موضع شكوكهم السخيفة. أما قراءات بيتر هانسن، المحايدة والنزيهة والواقعية، لعمليات قتل التلاميذ في مدارس الوكالة، ولجرائم القتل بشكل عام، ولعمليات تجريف البيوت، فقد جعلتهم يذهبون في الاتهامات للوكالة، الي حد اعتبارها منظمة معادية. بل إن ديفيد بيداين، الذي تخصص في الهجوم علي بيتر هانسن، وافتتح لهذه الغاية، منبراً للحوار عبر شبكة الإنترنت، لم يخجل من اتهام بيتر هانسن، بالانحياز لـ حماس واستدعي براهينه علي ذلك، من خلال نجاح حركة حماس في انتخابات نقابات العاملين في الوكالة، لا سيما انتخابات المعلمين، الذين أشار لهم بالاسم، في خان يونس والنصيرات ودير البلح وغيرها. وقد دفعت هذه المحاججة، أحد المعتوهين، الي الرد علي سؤال عن المرشح الجديد للمنصب، قائلاً إن المرشح الأمثل هو د. محمود الزهار، في إشارة ذات مغزي، لأحد قادة حماس في غزة. معني ذلك أن الوكالة نفسها مستهدفة، بسبب فلسفة عملها، المحددة في بيان تفويضها، في كانون الأول من العام 1949.

وباعتبار أن هؤلاء الغزاة، الذين لا علاقة لهم بالحد الأدني من المنطق ومن العدالة، يلاحقون المؤسسات والدول والشخصيات، لتحقيق احد أمرين، إما الإقصاء والكسر، أو الإدخال الي بيت الطاعة؛ فقد فتحوا النار علي كوفي عنان نفسه، وفضحوه، حتي عندما استجاب لضغوطهم حسب ما يقولون. فلم يتورع كُتاب إسرائيليون، عن القول ان أمين عام الأمم المتحدة، لم يخضع لضغوطهم ولضغوط الأمريكيين، في موضوع بيتر هانسن، إلا عندما وقعت فضيحة الفساد في برنامج النفط مقابل الغذاء للعراق، والتي قيل ان ابنه قد تورط فيها. وقد جعل عضو الكونغرس الأمريكي الجمهوري، كريس سميث، من قضية هانسن وكوفي عنان، محور اهتمامه اليومي، وطالب بتطبيق معايير الولايات المتحدة، علي الأونروا، وهي المعايير التي تقضي بعدم مساعدة أية منظمة إنسانية، حيثما يكون السلاح أو التدريب عليه. وتعمد سميث أن يخلط بين الشعب الفلسطيني والأونروا، وأن يتجاهل أسباب الصراع، وأن يقول ان لديه تقارير تفيد بأن معسكرات الأونروا قد تحولت الي قواعد للتدرب علي الهجمات العسكرية، ضد إسرائيل، وأردف يقول، ان دافع الضرائب الأميركي، يساعد في تمويل الإرهاب !

بيتر هانسن، الدنماركي، ذاق طعم التلفيق والظلم الصهيوني، وجرب التعامل مع الشعب الفلسطيني، واحترم مهمته، وكان يتمثل الحضارة والثقافة والقانون الدولي، بينما النصابون الأمريكيون، يغوصون في أوحال الكذب والجريمة. وعندما قيل له أن حماس موجودة في المخيمات، قال إن مهمته، لا تتضمن التمحيص في آراء اللاجئين وتوجهاتهم، وأن يتولي تغليب إحداها علي الأخري، وأضاف بأن حماس حركة كبيرة، سياسية واجتماعية ومقاتلة، وليس كل عضو من أعضائها هو مقاتل بالضرورة. وكان هذا من كبد الحقيقة التي لم يجافها بيتر هانسُن. واليوم، يعود الرجل بانطباعاته وبتجربته، مقدراً أن الفلسطينيين، لم يشترطوا عليه أن يساندهم سياسياً، أو أن ينحاز لهم، لكي يقدروا رسالته وتجربته، بل لم يؤثر علي موقفهم منه، أي اختلاف معه، حول هذا التفصيل أو ذاك. وبالتالي فإن الرجل، أصبح شاهداً علي حقيقة الوضع الفلسطيني، وشاهداً علي قدرة المحتلين، ومن يساندهم في الكونغرس الأمريكي، علي ممارسة الظلم، وعلي تزييف الحقائق، لأن أداءه لمهمته، وأمانته في أداء رسالة الأونروا، دون تحريف، كانت بحد ذاتها هي التهمة التي أدين بها! - (القدس العربي 28 آذار 2005)-