t


الاعتقاد السائد اليوم بأن «الفرصة السانحة» التي وُجدت في أعقاب قرار رئيس الوزراء آرييل شارون القاضي تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في غزة وانتخاب محمود عباس رئيساً للسلطة الفلسطينية، يثير جدلاً في الأوساط السياسية الأميركية. وأصبح السؤال المطروح اليوم هو ما إذا كان الرئيس بوش يتحرّك بسرعة كافية للحؤول دون أن يؤدي انتشار النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية الى تعطيل إمكانية قيام دولة فلسطينية. على المستوى السياسي، يُعتبر السؤال عما إذا كان احتمال قيام دولة فلسطينية قابلة للعيش لا يزال ممكناً طرحاً خاطئ، ليس إلا لأنه أصبح من الواضح الآن أن الرئيس بوش لن يُعرّض نفسه الى المخاطر السياسية المترتّبة على تأمين قيام هذه الدولة بمواجهة إصرار شارون على منع هذا الاحتمال. أما السؤال المناسب - الذي قد تؤمن الإجابة عليه النقص الحالي الواضح في الزخم والتوجّه - فهو ما إذا كان الأمل في بقاء إسرائيل كدولة يهودية لا يزال قائماً.

والحقيقة هي أن التهديد والشك يطالان اليوم الدولة اليهودية أكثر مما يهدّدان دولة الشعب الفلسطيني. وأياً كانت التساؤلات حول الدولة الفلسطينية، فقد بات من المؤكّد، في أعقاب انسحاب إسرائيل من غزة، أنها مسألة وقت فقط قبل أن يصبح العرب غالبية بين البحر المتوسط ونهر الأردن. وعندما سيحصل هذا الأمر، لن تبقى إسرائيل دولة يهودية، على الصعيد الرسمي والفعلي في آن معاً، إلا في حال عزلت غالبية السكان العرب في محميات مُغلقة لتتحوّل الى دولة عنصرية.

ولعله من باب السخرية المُطلقة أن تكون الدولة الفلسطينية هي الوحيدة القادرة على تأمين بقاء إسرائيل كدولة يهودية. ومع استمرار وترسيخ مشروع شارون الاستيطاني في الضفة الغربية - ليس على الرغم بل «بسبب» الانسحاب من غزة - وتقليص مساحة الضفة الغربية وتجزئتها بشكل متواصل، سيسعى الفلسطينيون عاجلاً أم آجلاً الى التخلي عن حل الدولتين واستبداله بالمنطق السياسي لتكاثرهم السكاني.

ولن يقبل الفلسطينيون بأقل من دولة في إطار حدود ما قبل 1967. وبما انهم سبق وتنازلوا لإسرائيل عن نصف الأراضي المُعترف بها من قبل الأمم المتحدة خلال قرار التقسيم الصادر سنة 1947، وهو إرث شرعي للعرب في فلسطين، لن يوافق الفلسطينيون على المزيد من الضمّ لأي جزء من نسبة الـ 22 بالمائة المتبقية من فلسطين، إلا في حال تبادل أراضٍ مماثلة على الجهة الإسرائيلية من الحدود. لا بد أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية في الأجزاء العربية من القدس. أما احتمال أن يوقّع زعيم فلسطيني اتفاق سلام يحرم الفلسطينيين من أي جزء من القدس فهو أشبه بتوقيع زعيم إسرائيلي اتفاق سلام يمنح اللاجئين الفلسطينيين «حق العودة» الى إسرائيل. وفي الحقيقة، إن موافقة الفلسطينيين على صيغة لتحويل «حق عودة» اللاجئين من إسرائيل الى الدولة الفلسطينية يعتمد كلّياً على تسويات حول موقف إسرائيل الحالي إزاء مسألتي الأرض والقدس.

ولا يمكن تصوّر هذه التنازلات الصعبة من جانب أي حكومة إسرائيلية إلا في حال عمدت هذه الحكومة أخيراً الى مصارحة المواطنين بأن السبيل الوحيد لتفادي أن يتحوّل اليهود الى أقلية في دولتهم هو قيام دولة فلسطينية، بجانب إسرائيل، ناجحة وقابلة للعيش. أما أولئك في إسرائيل - ومن ضمنهم صديق وحليف إسرائيل العظيم، عنيت الولايات المتحدة - الذين يعتقدون أن العالم سيقبل بنظام يهودي عنصري يحرم نهائياً بقوة السلاح غالبية عربية من حق الاقتراع ويسيطر عليها، أو يسمح لإسرائيل بتطبيق تطهير عرقي في معظم الضفة الغربية من خلال إجراءات قمعية اقتصادية و«أمنية» غير حاذقة، فهم يخدعون أنفسهم. من المؤسف أن يكون في إسرائيل أحزاب سياسية تنادي قواعدها بهذا التطهير العرقي الذي بالكاد يستّره قناع وهي أحزاب تعتبرها غالبية الإسرائيليين شركاء في حكوماتها.

في الواقع، يقوم ناثان شارانسكي، الذي يحظى بتكريم واسع بصفته المدافع المزعوم عن حقوق الإنسان، بنشاط يهدف الى إعلان الممتلكات الخاصة للعرب الذين يقيمون خارج الحدود البلدية للقدس والذين لديهم ممتلكات تقع داخل هذه الحدود، «ممتلكات مهجورة». ومن شأن هذه الصفة أن تسمح للحكومة بمصادرة هذه الممتلكات العربية من دون تعويض أو حتى حق الاعتراض. وهي فكرة تصدر عن الرجل الذي أقنع الرئيس بوش بوجوب إبقاء الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي حتى تصبح إسرائيل جاهزة لتشهد أنهم تحوّلوا الى ديموقراطيين.

إن «الوقائع» السكانية التي لا تقبل الدحض ، ستحسم مستقبل إسرائيل أكثر من المستوطنات ومما يُسمى بـ «الجدار العازل» الأمني الذي تشيّده إسرائيل على أراضٍ فلسطينية مسلوبة في غالبيتها. وعندما ينجح هذا الإدراك في خرق الأوهام التي تُحدق اليوم بعملية السلام غير القائمة قد يفهم مناصرو إسرائيل أخيراً أن السؤال المطروح لا يتعلق بتفويت "الفرصة السانحة" لقيام دولة فلسطينية ولكن بتفويت فرصة بقاء دولة يهودية. وللأسف، وبما أن التلاعب البالغ الدهاء لشارون ومستشاره دوف فايسغلاس، الذي يعتقد (بحسب ما ورد أخيراً في مقابلة لفايسغلاس في صحيفة هآرتس) أنهما نجحا في إقناع الولايات المتحدة بأن تنتظر «تحوّل الفلسطينيين الى فنلنديين» وبإبقاء خارطة الطريق وعملية السلام في حالة «حفظ وجمود»، ومن المتوقّع ألا يأتي هذا الإدراك إلا بعد ان تكون هذه الفرصة المثالية قد فاتت الى غير رجعة.

(دار الحياة-10/5/2005-).