في غمرة نشوة الانتصار بإعلان الدولة وهزيمة الجيوش العربية والنزوح الفلسطيني الكبير بين يدي نكبة 1949-1948، استشرف قادة صهاينة مستقبلاً للاجئين الفلسطينيين، يقوم على تصور بالغ السوداوية، هو أن جيل الأجداد والآباء سيفنى بقدر الموت فيما الأجيال التالية ستنسى وطناً لن تولد فيه ولن تكون على صلة به ولا ذاكرة لها معه، وساعد على رسوخ هذا التصور في بعض السنوات اللاحقة، تشتت الحقيقة الشعبية (السكانية) والسياسية الفلسطينية تحت سيادات وطنية مختلفة،
ولا تفسير لتوقع القطيعة العاجلة بين المجتمع الفلسطيني الأصيل وبلاده، سوى الجهل بطبيعة هذا المجتمع أو تجاهلها بفعل سيطرة العقلية الاستعلائية على الصهاينة الأوائل، واليقين باختلال موازين القوة المادية البحتة لمصلحة مشروعهم. هذا علاوة على البعد الدعائي الذي كانوا يستهدفون به طمأنة يهود العالم إلى ما ينتظرهم من عيش هانئ آمن بعد المهاجرة إلى مستوطنهم الجديد. ولا نستطيع الجزم الآن حول ما إن كان مهندسو فكرة "الشتات الذي يُغيب الوطن في مجاهل النسيان" اعتبروا بالمثل الذي يزعمونه لليهود أنفسهم، فإذا كان الشتات اليهودي بقولهم لم ينس "أرض إسرائيل" لألفي عام أو يزيدون. وهو على مسافة شاسعة منها جغرافياً وسياسياً وحقوقياً واقتصادياً...الخ، فلماذا افترضوا أن ينسى الفلسطينيون وطنهم، الذي يعيشون على مرمى النظر منه في المكان والزمان؟! إن مثل هذا الافتراض يشي ببعض المكنونات العنصرية. فهو يقول إن "للشتات اليهودي" ذاكرة قوية عابرة لكل المعطيات، بينما سيعيش "الشتات الفلسطيني" بلا ذاكرة من الأصل، علماً أن الذاكرة من أبرز الخصائص الفارقة بين الإنسان وبقية المخلوقات في الكون.
في كل حال، خاب الظن الصهيوني وأصبحت ديمومة الوطن وصيانته في الذاكرة الفلسطينية، بين أهم بواعث استمرار الصراع على أرض فلسطين وجوارها. ومن المثير أن العلاقة بين اتساع مسافة الغياب عن الوطن ومراحل اللجوء الأولى وبين شدة استحضار ذلك الوطن في الذاكرة الفلسطينية تبدو طردية، وليست عكسية.
فعلها أجداد الفلسطينيين وآبائهم، فغافلوا الجميع، وخصوصاً المتربصين بوطنهم السليب، ونقلوا مشهد الوطن بالكامل إلى جيل الأبناء والأحفاد، أودعوا هذا المشهد أمانة في الأعناق وحدقات العيون، إلى أن يتغير الزمن ويكون اللقاء بين الوطن وأصحابه. ولم يقصر هؤلاء الأخيرون لا في فهم مغزى الوديعة ولا في حملها.
بل وأفلحوا في نقلها من العقول والذاكرات إلى المتون والمدونات. هنا بالضبط تأتي حكمة الدور الذي اضطلع به سلمان أبو ستة، الذي خرج على الكافة من عكوفه زهاء عقدين بـ"أطلس فلسطين"، سفر ضخم يضم بين دفتيه كل شيء عن فلسطين الوطن في رسوم وجداول وخرائط وشروحات دقيقة التوثيق رفيعة الصدقية. فكرة أبو ستة من وراء جهده بسيطة بقدر ما هي عميقة: "الخريطة هي هوية المكان. من دونها يتوه المكان وقد يضل الزمان. وعلى الجملة الخريطة تحفظ مكان الزمن وزمن المكان". وعنده أن "أطلس فلسطين العربية الإسلامية ليس كغيره من حيث الهدف والوظيفة، لذا جرى تصميمه ليكون أقرب إلى وثيقة حية تسعى. فهو يؤشر إلى كل من الأماكن وما كان عليها من بشر أو مجتمع يتفاعل معها بكل المعاني المتخيلة في الحياة من فجر التاريخ إلى يوم النكبة". الأطلس بهذا المفهوم وهذه المنهجية أعاد تركيب الواقع الفلسطيني كما كان تماماً عند وقوع النكبة.
ولمن لا يعلم - ينبهنا أبو ستة - فإن ديفيد بن غوريون عجّل فور توقيع آخر اتفاقات الهدنة الإسرائيلية - العربية عام 1949، بتكوين ما دعاه بـ"لجنة الأماكن اليهودية"، بقصد إعادة صياغة المسميات الفلسطينية العربية الإسلامية لكل المظاهر العمرانية وفقاً للمنظور الصهيوني (اليهودي التوراتي) والمفارقة أن اللجنة فشلت في مهمتها ولم تحول جذرياً سوى 5 في المئة فقط من هذه المسميات، ما يثبت أن هوية المكان تكون برسوخها أحياناً عصية على التزوير وعمليات الانتحال، تماماً كالإنسان!
من قُدِّر لهم متابعة سيرة النكبة الفلسطينية يدركون حجم الآلام التي لا بد عاناها هذا المعماري النابه وهو يعيد مشاهدها المروعة شديدة المرارة والمأسوية. ومع ذلك لا ندري مثلاً كيف اصطبر أبو ستة وكظم غيظه وألمه عند استحضاره صورة أهالي عشرات القرى والمحلات الفلسطينية وهم "يرمحون" خلف الضباط الذين وكلوا بترسيم خطوط هدنة 1949 "صائحين باكين من هول جراحات التخطيط الأعمى التي مزقت شمل قرى وعائلات وبيوت ومزارع بلا مراعاة لشؤون الناس ومصالحهم وحيواتهم". وفي المناسبة، ألا توحي لنا هذه الصورة بما يجري راهناً بفعل جدار الاستيطان العنصري في تضاعيف الضفة؟!
والذين ما زالوا "يتواقحون" بجرأة على مفهوم فلسطين، كوطن كان يحوي مجتمعاً حياً يموج بالحركة والعمران، نقتبس بعض ما أورده الأطلس في شأن ما سرقه ضياع النكبة بعد اقترافهم 70 مجزرة و70 جريمة فظيعة موثقة: "استولى الصهاينة على 31 مطاراً عسكرياً، 37 معسكر جيش بكامل معداتها (مساحتها 643000 متر مربع)، 41 محطة سكة حديد، 319 كيلومتراً من الطرق المعبدة، و22000 كيلومتر من الطرق الثانوية، 626 مبنى حكومياً وصحياً وتعليمياً، 99 مركزاً للشرطة، و15 مركزاً للبريد، 350 مدرسة، 33 مستشفى، 2200 مؤسسة للإدارة بما فيها من سجلات ووثائق، مئات من آبار المياه، 3600 مسجد ومصلى، هذا عدا 19 مليون دونم من الأراضي وما عليها من منقولات وممتلكات وزروع ومواش وصناعات ومرافق وما يمكن تصوره من مظاهر للحياة أقامها شعب من قديم الزمان".
في كل حال، نحن بصدد كتاب موسوعي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من ذاكرة فلسطين، الوطن والشعب، إلا تابعها وأحصاها. كتاب يثير الشجن بقدر ما ينبغي أن يكون "سجلاً ليس ليبكي عليه أصحاب الوطن المغتصب، وإنما ليتخذوا منه خطة لاستعادة هذا الوطن". هذا رأي صاحب الأطلس، وهو رأي يستحق التأمل تماماً كما يستأهل صاحبه التقدير.
(دار الحياة – 16/5/2005 -).