لبث الفلسطينيون طويلا في مخيماتهم بعد النكبة وهم غارقون في الإصغاء إلى برنامج «رسائل المواطنين العرب إلى ذويهم» من الإذاعة الإسرائيلية. كانت رسائل الحنين تبدأ، كلها تقريبا، على هذا المنوال: «أنا خديجة قبلاوي من ترشيحا أهدي سلامي إلى أخي أبو محمد في برج البراجنة والى أختي سامية في الأردن... وأخبركم أن عمي أبو العبد توفي ودفن في شفا عمرو... ويسلم راسكم». لقد تغيرت الحال كثيرا، لكن الفلسطيني مازال يودع أحبابه الذاهبين إلى فلسطين بالقول: «سلِّم لي على خالتي، وزُر قبر ابن عمي، ولا تنسَ أن تبعث لي بصورة عن دارنا المهجورة».
بالأمس جاء أحمد الطيبي إلى بيروت، وفي مثوى شهداء صبرا وشاتيلا سالت دمعتان على خدّيه، وتغرغر الكلام في فيه حينما التفّت حوله نساء الجليل وأبناء المخيم وأطفال الشهداء.
بالأحضان يتلاقى الفلسطينيون، وبالدمع يودعون بعضهم. هكذا كان أحمد الطيبي محاطا بالناس في برج البراجنة. قالت له تلك المرأة في مستشفى حيفا: «بوّس محمد من هان ومن هان»، وأشارت إلى وجنتيها. ومحمد هو المناضل محمد بركة عضو الكنيست المكافح والمشاكس والصلب. والمرأة هي ابنة عمه التي لم تغمره مرة بيديها، لكنها تعرفه بالصورة من بعيد.
جاء أحمد الطيبي إلى بيروت ليقيم جسرا رمزيا بين فلسطين المخيّلة وفلسطين المنفى. ثم عاد بعدما حمّلته الجليليات رسائل الحنين إلى الكنائس المهجورة والى الجوامع المدمرة والى المنازل المتروكة والى اللاجئين في وطنهم المنتشرين فوق بقاعهم من أعلى الجليل إلى الناصرة، ومن عكا إلى يافا مرورا بذلك القوس البهي عند شاطئ حيفا الجميل.
يعود أحمد الطيبي إلى فلسطين غدا ليعيد العراك مع الاحتلال فورا. ولعلني أطمع برسالة يحملها معه إلى الأحبة وفيها بعض الكلمات اقتطف منها ما يلي: «يا أحمد، امسح بكفك الدمعتين، وهدّئ وجيف قلبك واضطراب فؤادك. ها هنا رأيت الجليل الحقيقي، وهذا ما فعله الصهيونيون به حقا. هنا وجنات النساء مشققة بالبكاء، وهناك الأرض مقطّعة بالأسوار. عرّج، حينما تعبر الجسر، وقبّل خدي «أبو حسين» وامسك يده، وتمشى في شعاب رام الله، واشترِ لي منها وردة، وانثر أوراقها فوق قبر الحبيب ياسر عرفات. وأذكرك بأن تجوس قليلا في وادي النسناس وتتأمل هدير الموج في البحر المترامي قبل أن تعود إلى منزلك في الطيبة. والى اللقاء في الجليل في يوم لن يطول كثيرا».
(الحقائق-215/2005-).