في الذكرى الاولى لرحيل الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني ياسر عرفات تترسخ اكثر واكثر القناعات بأن الرجل الذي كان قادراً على تحقيق «سلام الشجعان» بين شعبه واسرائيل، لو ان زعماء الدولة العبرية كانوا يريدون السلام فعلاً، قد اغتيل خلسة. وقد اثبت خصمه اللدود رئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي ان هدفه ليس السلام مع الفلسطينيين وانما فرض الاستسلام عليهم بقوة السلاح والبلدوزرات والخطط الاحادية الجانب المستبعدة لاي تفاوض مع الفلسطينيين والمنكرة انهم انداد مساوون. ولقد نسف سلوك اليمين الاسرائيلي المتطرف منذ اغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين على يد افراده اي امكانية لتحقيق السلام في وقت قريب، بل ان هذا اليمين الفاشي يزرع حقائق على الارض الفلسطينية تتمثل في مستوطنات لليهود واحقاداً في النفوس من شأنها ان تجعل السلام بعيد المنال.
ان شعب عرفات وقومه ليذكرونه اليوم باعتباره القائد الثوري الذي استعاد هويتهم الوطنية ورسخها في المعترك السياسي الدولي بعد ان كادت تنمحي وتذوب بفعل الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية في حرب العام 1948 ثم في حرب حزيران (يونيو) 1967 التوسعية، وبسبب اصرار كبار القادة الاسرائيليين على انكار حتى وجود الشعب الفلسطيني. كان الاسرائيليون يحاولون ايهام العالم بأن مشكلة «اللاجئين العرب» نجمت عن دعوة دول عربية اولئك الناس للهرب من ديارهم خلال الحرب، وكانوا يقولون ان الدول العربية كثيرة وبوسعها ان تستوعبهم وان اسرائيل الصغيرة لا يمكنها ان تقبل بعودة هؤلاء لانها دولة اليهود.
لقد بعث الامل في نفوس الفلسطينيين وكانت عزيمته الثورية طافحة بالثقة بالنصر وكان يشير الى القدس دوماً بقوله «يرونها بعيدةً ونراها قريبة»، وهذه الثقة الطافحة بالامل من سمات القادة الكبار التي تميزهم عن قادة يستكبرون الصعاب ويستهولون قوة الخصوم فيحجمون عن خوض المعارك النضالية والعسكرية والسياسية الكبرى ويستكينون ويظهرون مظاهر الضعف والرهبة والخوف فيفقدون ثقة الناس.
لم يكن عرفات طائشاً وكانت حساباته دقيقة بمعايير القادة الثوريين ومعايير رجال الدول ولو لم يكن له بعد الدولة التي حلم بها وسعى الى اقامتها واتخاذ القدس الشريف عاصمة لها.
كان مقتل رابين مؤشر انحدار في عملية السلام أعقبه فشل قمة كامب ديفيد حيث سعى رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك ايهود باراك الى فرض صفقة على الفلسطينيين بمنطق «خذوها او اتركوها كما هي»، ولم يكن بوسع «ابو عمار» ان يقبل بصفقة لا تقر بالسيادة الفلسطينية على القدس الشرقية ولا تقبل بمبدأ حق اللاجئين في العودة بحسب قرار الامم المتحدة 194 واعتماد خطوط الهدنة في العام 1949 حدوداً لفلسطين واسرائيل. لم يعن هذا انه كان متصلباً وانما انه ما كان ليقبل لشعبه بأقل مما يستحق بموجب قرارات الشرعية الدولية. وقد اكتمل الانحدار مع صعود شارون الى رئاسة الحكومة فانسدت الآفاق امام امكانية الوصول الى تسوية مقبولة. وقد نجح شارون في استمالة ادارة الرئيس جورج بوش الى جانبه وصار بوش يردد وراء شارون لازمة البحث عن قيادة بديلة للفلسطينيين رغم ان عرفات كان رئيساً انتخب انتخاباً ديموقراطياً تحت رقابة دولية شارك فيها رئيس اميركي سابق هو جيمي كارتر.
وما زال الانحدار مستمراً الى اليوم. ذلك ان شارون يفرض سياسته الاحادية الجانب وهو لم ينفذ اياً من التزاماته بموجب تفاهمات شرم الشيخ مع الرئيس محمود عباس: لم يطلق اسرى فلسطينيين، ولم يزل حواجز الطرق ولم ينسحب من المدن الفلسطينية في الضفة ولم يسو مسألة المعابر الى قطاع غزة ومنه ويواصل التهام اراضي الضفة وتحويل بعض الحواجز العسكرية الرئيسة فيها الى معابر «دولية» ترسم حدوداً لاسرائيل اوسع بكثير من حدود 4 حزيران 1967.
لقد حدد «ابو عمار» الحدود النهائية للتنازلات من اجل تحقيق السلام ولن يقبل اي قائد فلسطيني بعده بتجاوزها. - (الحياة اللندنية 11 تشرين الثاني 2005) -