عرفت في مطلع الستينات الشاعر الفلسطيني كمال ناصر. وكان لاجئاً سياسياً بالقاهرة. وقد سبق زميليه الشاعر معين بسيسو ثم الشاعر محمود درويش. وكانت أشعار كمال ناصر نارية. وكنت أسميه شاعر الوجيعة. لأن شعره مليء بوجيعة الفراق والغربة عن الوطن. وقد تعب كمال ناصر من القاهرة. رغم أنه أفرط في حبها. وقد يكون هذا هو السبب. حين قرر العودة باختياره إلى بلده بالضفة الغربية.

وقابلت بعد سنوات كمال ناصر في بيروت. وحكى لي إن الشرطة “الإسرائيلية” اعتقله في الضفة وقررت ترحيله إلى الأردن. وصحبه سامسون رئيس الشرطة الذي كان يتحدث العربية في عربة جيب إلى جسر الملك حسين الذي يصل الضفة بالأردن.

وفي نهاية الطريق تركه سامسون قائلاً: “طبيعي ألا نتركك لأنك كثير القلاقل. ونحن نعرف أنك كنت تفضل الذهاب إلى بيروت. ولكن سوف تفسدك الحياة هناك. وسوف تأكل نفسك بنفسك”.

وانتقل الشاعر كمال ناصر بالفعل من الأردن إلى لبنان. ولكن الحياة لم تفسده، وكنت أقابله كلما زرت لبنان. وأزور بيروت عدة مرات في السنة بسبب عملي في اتحاد الصحافيين العرب. وكان مطعمنا المفضل هو مطعم “فيصل” الذي يقع في مواجهة الجامعة الأمريكية ببيروت. ويفضله أهل الصحافة والكتابة.

وأبديت ذات لقاء دهشتي بأن كمال ناصر يأتي دون حراسة. وكنت أحس أنه لا يتوقف عن النشاط. فقد أصبح المتحدث الرسمي لمنظمة التحرير، وحين صارحته بدهشتي قال لي: ماذا أفعل؟ لعل أحسن حراسة هي ألا تكون عليك حراسة تلفت النظر!.

وكان الموساد يراقب نشاط كمال ناصر وتحركاته، ثم قرر اغتياله.

واختار منطقة الرملة البيضاء على كورنيش بيروت. حيث يوجد قصر كبير ومهجور كان يملكه أحد الأثرياء العرب. وقد اشترى الثري مطعماً كان يطل على الشاطئ مباشرة. ولا يفصله عن القصر سوى شارع الكورنيش الطويل. وأراد هذا الثري بعد شراء المطعم أن يبني “كوبري” يصل قصره بالمطعم ليتحول إلى بلاج خصوصي. ورفضت بلدية بيروت الفكرة. وقرر الثري غاضباً ترك بيروت والقصر والمطعم.

وظل الموقع مهجوراً. فاكتشف الموساد أن هذا المكان هو أفضل الأماكن للنزول من البحر ليلاً لإتمام جريمة اغتيال الشاعر كمال ناصر الذي كان يسكن وسط بيروت في شارع فردان.

ومعروف أن إيهود باراك. الذي أصبح رئيساً للوزراء. وكان وقتها رئيس أركان الجيش هو الذي وضع خطة اغتيال كمال ناصر. وقام بتنفيذها. ولبس ملابس نسائية. ولكن كابليوك في كتابه الجديد عن ياسر عرفات يكشف ما هو أدهى.

ففي مساء 9 أبريل/ نيسان 1973 توجه 16 “إسرائيلياً”. كان منهم أربعة في ملابس نسائية. ويقول (ص 138) إن باراك وضع الخطة مع مناحم بيجن. وشاركه شاحال مساعده في رئاسة الأركان. وقد أصبح بعد ذلك وزيراً عندما تولى باراك رئاسة الحكومة.

ويكشف المؤلف أن شقيق بنيامين نتنياهو الأكبر كان ضمن العصابة التي اتجهت الى شارع فردان. وقتلوا محمد يوسف النجار “أبو يوسف” وكمال عدوان وكمال ناصر. ويحدد كابليوك أن الذي قتل كمال عدوان هو إيهود باراك. وأن القتلة أطلقوا النار في داخل فم كمال ناصر باعتباره كان متحدثاً رسمياً لمنظمة التحرير: “ولأنه كان مسيحياً فقد رسموا عليه علامة الصليب”!.

ويكشف المؤلف أن عرفات قد نجا هذه المرة أيضاً من بين المحاولات التسع لاغتياله. فقد رجا كمال ناصر أبو إياد أن يتركوه بمفرده ليكتب. وكان عرفات وأبو إياد وأبو جهاد معاً في حي الفاكهاني غرب بيروت. وتمت الجريمة لتعود العصابة من نفس الطريق إلى المطعم المهجور وليصبح بعض أعضائها بعد ذلك وزراء في حكومات “إسرائيل”.

***

وبين جرائم الإرهاب الصهيوني البشعة التي سجلها كابليوك. وصف بدقة جريمة اغتيال أبو جهاد في تونس.. ففي مارس/ آذار 1988 اجتمعت حكومة إسحق شامير لبحث الموقف بعد تصاعد الانتفاضة في الأراضي المحتلة، وقال شامير “الإرهابي المخضرم”: “أبو جهاد مسؤول عن التصعيد. ولابد من قتله”.

ووافقت الحكومة الائتلافية على خطة الموساد لاغتيال خليل الوزير “أبو جهاد”. والمسؤول عن الانتفاضة.

ولم يوافق الوزير عيزرا وايزمان قائلاً: “إن الاغتيال لن يوقف الانتفاضة. بل سيزيد الموقف سوءاً واشتعالاً”.

وقبل 24 ساعة من تنفيذ الاغتيال. كان القتلة في البحر يتجهون إلى شواطئ تونس. وعادت الحكومة للاجتماع ولم يدم أكثر من ساعة. ووافق على الاغتيال من جديد ثلاثة “إسحاقات” هم: إسحاق شامير وإسحاق رابين وإسحاق نافون. رئيس “إسرائيل” السابق. ومن حزب العمال: حاييم بارليف صاحب خط بارليف. كما وافق من الليكود: موشي أرينز ودافيد ليفي وموشي كاتساف. وطبعاً تحمس ارييل شارون وهو القاسم المشترك في كل الحروب والاغتيالات.

ولكن الذي وضع الخطة وأشرف عليها بدقة كان إيهود باراك أيضاً. رئيس الوزراء وكان أيامها مساعداً لرئيس الأركان. وكان الموساد يتنصت على كل المكالمات من تونس وباريس والأراضي المحتلة. ذهاباً وإياباً. كما أشرف باراك على قائد الموقع الذي جمع المنفذين حول “ماكيت” للفيلا التي يقيم فيها أبو جهاد في حمام الشط على بعد كيلومترات من العاصمة تونس.. كان كل شيء معداً براً وبحراً وجواً وفضاءً!

ويروي كابليوك بالتفصيل الدقيق عملية اغتيال أبو جهاد. ويعود إلى تأكيد اعتقاده أن أبو عمار كما يقال بين “الإسرائيليين” بسبع أرواح. لأنه أيضاً نجا من عملية اغتيال أبو جهاد عام 1988. كما نجا من قبل من عملية اغتيال كمال ناصر. ونجا من تسع محاولات. ولم ينقذ أبو عمار من عملية 1973 سوى أنه سهر طويلاً في حي الفاكهاني في بيروت الغربية. وطالت الندوة والحديث. وكان قد ترك كمال ناصر في شارع فردان ليكتب مقالاً ولم يرد العودة إليه بسرعة وقطع أفكاره. وفي حادث أبو جهاد. ينقل أيضاً كابليوك عن الشاعر محمود درويش أنه كان قد جاء مع وفد صحافي من باريس. وفي تونس العاصمة طال اللقاء. وعرض بلعاوي سفير فلسطين في تونس أن ينام أبو عمار حتى الصباح في الفيلا المخصصة للسفير. ولكن أبو عمار رغم ذلك عاد متأخراً إلى حمام الشط، وقبل ربع ساعة فقط من وصوله كان القتلة قد نفذوا خطتهم لاغتيال أبو جهاد.

وكان أبو جهاد “سهران” يكتب، فسمع صوت حركة في الدور الأرضي. واقترب من باب غرفته في الدور الأول ومسدسه في يده. ولكن القتلة الأربعة كانوا قد أطلقوا رصاصاتهم.

سبعون رصاصة أسقطت أبو جهاد مضرجاً في دمائه أمام زوجته “أم جهاد” وابنته. واختفى القتلة وهم يحفظون عن ظهر قلب ماكيت الفيلا. وفي اليوم التالي عادوا إلى “إسرائيل”.

ويحكي كابليوك قصة نجاة عرفات من جديد بمحض المصادفة أو الحاسة السادسة. وكما نجا من غيرها من محاولات الاغتيال التسع. لأن الطائرات الإسرائيلية كانت تقصف الشاطئ التونسي طبقاً لخطة موضوعة.

وقد ظللت حائراً وحزينا لسنوات طويلة منذ اغتيال الصديق الشاعر كمال ناصر في بيروت عام 1974. وهجمت علينا حوادث واغتيالات أخرى حتى وقع اغتيال أبو جهاد منذ 15 عاماً. وعرفت السبب.

إن الموساد يختار المناضلين في المنفى والشتات ومن لهم علاقة بالأرض المحتلة، ولأن عرفات تنقل من مصر إلى الكويت ثم الأردن ثم سوريا ولبنان وبعدها تونس، فقد كانت عينه وقلبه دائماً على الأرض المحتلة.

ويروي كابليوك أنه عند وفاة الزعيم الفلسطيني فيصل الحسيني أصابه الحزن. وكان الحسيني قد دفن في سوريا. وقال عرفات: أمنيتي أن أدفن في القدس.. ولم تتحقق أمنيته.

ولكنه عاد إلى الأرض المحتلة. وبدأت مرحلة جديدة. ولم يخف بيجن أو شارون ومن قبلهما دايان وجولدا مائير الرغبة في اغتيال ياسر عرفات. وينشر كابليوك في كتابه عن عرفات عشرات التصريحات في الصحف “الإسرائيلية” أو المذكرات عن ضرورة تصفية ياسر عرفات. - (الخليج الاماراتية 17 تشرين 2005) -