لعل أهم دلالات اللقاء العراقي في القاهرة انه كان ضرورياً جداً، على عكس ما ادعى ويدعي أهل الحكم في بغداد، وأنه تأخر كثيراً جداً وكان يجب أن يسبق انجاز الدستور أو يتواكب معه، ليأتي هذا الدستور ثمرة توافق يجري البحث عنه الآن. ثمة دلالة أخرى برزت في الكلمات والتصريحات والاحتجاجات، وهي أن معظم الخلافات الراهنة مرتبط بالأخطاء الفادحة التي ارتكبها الاحتلال الأميركي وما لبث مؤيدو الاحتلال أن اختاروا الاستفادة منها بدل أن يعملوا على تصحيحها. فتلك الأخطاء التي ألغت الجيش والمؤسسات هي التي أسست لمنهج الإقصاء، ومن يعتنق الإقصاء يدخل في منطق الاستئثار ويصعب عليه بعدئذ أن يقبل بحقوق الآخرين أو أن يعترف بفضاءات المواطنة وما تفترضه من حدود للتسلط.

لم تكن فضيحة سجن الجادرية مثيرة بتفاصيلها التي استضألها وزير الداخلية، وانما كانت مؤلمة باستعادتها الإرث «الصدامي» وتجديده، ومن فاته أن يعزوها الى «الصدامية» أو رفض ذلك فإن تصريحات بيان جبر لم تترك مجالاً لأي لبس. لذلك بدا لقاء القاهرة كأنه ينعقد في ظل «توازن ارهابي» غير معترف به، لكن الارهابيين المستبعدين بطبيعة الحال عن اللقاء كانوا ولا يزالون علناً ضد أي حوار أو مصالحة أو وفاق. أما الآخرون الملتحفون بـ «الشرعية» فحضروا لإثبات أنهم على حق في ما يفعلون عبر ميليشياتهم داخل السجون وخارجها حتى لو بلغت ممارساتهم حداً لم يعد الأميركيون أنفسهم ليحتملوه.

يجب أن يؤسس لقاء القاهرة لحوار مستمر ومصارحة مفتوحة، لأن المصالحة تبدو متعذرة بل مؤجلة. فهذا هو الطموح الأقصى المتوقع له. والأهم انه يجب أن يوفر الاطار المناسب لحصر الخلافات عراقياً، ومعالجتها عراقياً وبالتالي النجاح في طمأنة جميع مكونات المجتمع العراقي بخيارات عراقية بحتة. فالطرف الثالث، الأميركي، أعطى ما عنده وأوصل الوضع العراقي الى ما هو عليه الآن، أما الوسيط العربي فأوضح للجميع من خلال لقاء القاهرة حدود دوره، أي انه لا ينوي التدخل وانما يريد توفير بيئة اقليمية ايجابية تسهل إقلاع العراقيين بحوارهم. وكما كان الأمر مسؤوليتهم منذ اليوم التالي للغزو الأميركي، لا يزال مسؤوليتهم أيضاً فيما هم يحاولون انهاض دولتهم من العدم.

الانتخابات المقبلة في العراق فقدت فرصتها في أن تكون استحقاقاً لتظهير الوفاق الوطني أو لتعميق ديموقراطية ناشئة أو لتفعيل دستور يقول أصحابه انه يعبر عن جميع العراقيين. وفيما يجري البحث عن «مصالحة» و «وفاق» فإن هذه الانتخابات، على ضرورتها، مرشحة لأن تخدم النهج الحالي للحكم بعقليته التي عبر عنها طوال سنتين ونصف السنة، وهو النهج الذي كان يؤمل من أي مؤتمر حوار بأن يضع حداً له، كونه قطع أشواطاً في قتل «الوحدة الوطنية» لمصلحة الشحن الطائفي وتكريس التحاصص المذهبي والفئوي. ومن شأن أهل الحكم الحالي أن يتقبلوا النقد لنتائج ممارساتهم، لأن أي نقد عاقل لا يمكن أن يستهدف في النهاية استعادة الحكم الاستبدادي الذي اندثر ولا قبول استبداد جديد مقنّع.

لا شيء سيدفع قوات الاحتلال الى المغادرة مثل الوفاق الوطني، وفي المقابل لا شيء يطيل بقاء هذه القوات مثل التنافر والتنابذ والتقاتل. من هنا ان المطلب الطبيعي لأي حكم وطني ان يزيل الاحتلال، واذ يخشى أهل الحكم في بغداد أي انسحاب «مبكر» لقوات الاحتلال، فإن أفضل وسيلة لمواجهة تداعيات هذا الانسحاب هي الوفاق، واذا كان الوفاق متاحاً بالحوار والمصارحة فإن التفريط به لمصالح ميليشيوية جريمة في حق العراق والعراقيين.

المشاركون في لقاء القاهرة يعرفون جيداً، أكثر من أي أحد آخر، ما هو الفارق بين المقاومة والارهاب، فلا داعي اذاً للالتهاء بجدل عقيم. السؤال المطروح هو: هل هناك لقاء جوهري ضمني على الوفاق الوطني كوسيلة لاخراج الاحتلال؟ اذا كان الجواب بنعم فلن تعز الأساليب لتحقيق الهدف، أما اذا كان الجواب بلا فإن لقاء القاهرة ومثله لقاء بغداد السنة المقبلة سيكونان مجرد محطتين في تمرير أجندات خفية للاطراف الرافضة أصلاً لأي وفاق الى أي جهة انتمت.

الحياة اللندنية(21/11/2005).