يستوجب الحديث في مأزق الفكر السياسي الفلسطيني بيان أمرين يتصل بهما وضوح العنوان الذي نروم القول فيه، هما: معنى المأزق، ومعنى الفكر السياسي الفلسطيني. لنبدأ بالثاني:

لسنا نعني بالفكر السياسي الفلسطيني الإنتاج الفكري الأكاديمي أو الجامعي الذي تقدمه نخبة مميزة من الباحثين الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني، وفي الجوار العربي، وفي المهاجر على امتداد العالم، والذي تدور موضوعاته حول قضايا عديدة ليست جميعها على صلة بقضية فلسطين والصراع العربي- الصهيوني. فهذا إنتاج مختلف: له سياقات خاصة يدرك في امتداد مقدماتها وأهدافها العلمية، ويفترض - قطعاً - مقاربة مختلفة عن تلك التي نروم القيام بها. نعني بالفكر السياسي الفلسطيني ذلك الإنتاج الذي ارتبط بالعمل السياسي وبالحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة، وأتى يجيب عن جملة المعضلات التي طرحتها تجربة النضال الوطني الفلسطيني، خاصة خلال العقود الأربعة الأخيرة.

ليس معنى ذلك أن الفكر السياسي هذا يرادف في المعنى - الذي نقصده- ما تفيده عبارة الأدب السياسي أو الأدب الحركي، أي جملة الموضوعات أو الأفكار التي تشكل مادة برنامج سياسي عملي لفصيل من فصائل الثورة أو للحركة الوطنية الفلسطينية برمتها. فهذا - على أهميته- ليس فكراً وإنما خطاب وإن كانت مادته تستند إلى فكر وتنهل منه. كما ليس يعني قولنا بأن الفكر السياسي المقصود غير الفكر الأكاديمي وإنما الفكر المرتبط بالعمل الوطني أن هذا الأخير يخلو من التقاليد العلمية التي تطبع الأول. ذلك أن القارئ في المادة الفكرية- السياسية الصادرة عن مراكز دراسات فلسطينية من كتب ومجلات، مثل "مركز الأبحاث الفلسطيني"، و"مؤسسة الدراسات الفلسطينية" - وهما ليسا بعيدين عن الحركة الوطنية- يعثر على مضمون فكري ثري في الكثير منها يضاهي في القيمة العلمية أو يفوق أحيانا، ذلك الصادر عن جامعات أو عن برامج بحثية.

الفكر السياسي الفلسطيني الذي يقصده العنوان هو الفكر الذي يؤسس رؤية للعمل الوطني، ويرسم له الاستراتيجيات، ويزود الممارسة النضالية بأجوبة عن الإشكاليات التي تطرحها تجربتها الميدانية. إنه فكر حركة التحرر الوطني الفلسطينية المعاصرة: الفكر الذي أنتجه مثقفون مرتبطون بها، مناضلون في مؤسساتها، أو قادة عمليون لم يكونوا بعيدين عن ميدان التنظير والتوجيه الأيديولوجي حتى وهم يقودون العمل الوطني. إنه الفكر الذي نجد تجلياته التفصيلية في برامج فصائل منظمة التحرير، والذي تحكم معادلاته ومقدماته سائر أشكال التعبير السياسي عن الفكرة الوطنية الفلسطينية لدى هذه الفصائل ولدى الحركة الوطنية عموما. ويعني ذلك أيضاً، أن التأمل في هذا الفكر سيجري كذلك من خلال قراءة في الاستراتيجيات السياسية والبرامج التي أسس لها.

هذا ما نقصده بالفكر السياسي الفلسطيني في العنوان الذي وضعناه. أما المأزق، فيشير إلى حالة قصوى من العطب في نظام اشتغال Fonctionnement موضوع ما. إنها حال ترسم حدودا نهائية لإمكانية استئناف العمل بذات القواعد والأدوات التي جرى العمل بها قبلا، وتستدعي مخرجا من وضعية الشلل التي هي فيها. المأزق حالة عطب حادة أعلى من الحالة التي يعبر عنها مفهوم الأزمة. في الأزمة خلل يقبل تصحيحا أو تداركا. وحتى وإن فشل التصحيح، قد تعيد الأزمة إنتاج نفسها. وهذا مما ليس ينطبق على المأزق الذي يعني الانسداد الذي لا يقبل تصويبا إلا بالخروج الكلي عن المسار الذي خيض فيه وقاده - في المطاف الأخير- إلى المأزق.

بعبارة أخرى، حين تدب في فكر ما أزمة فيوصف بأنه مأزوم، لا نملك أن نذهب إلى الاستنتاج بأنه وصل إلى الطريق المسدود. فلقد يمكن أن تكون الأزمة عارضة، و- بالتالي- قابلة للاحتواء عن طريق التصويب أو التصحيح الذاتي، ومنه مراجعة المفاهيم والأفكار واليقينيات وسد الثغرات، أو عن طريق التكيف الموضوعي، ومنه استيعاء المتغيرات وأخذ حقائقها في حسبان التفكير والتقدير والتشبع بقيم الواقعية والتاريخية...إلخ. ولقد مر على الفكر السياسي الفلسطيني حين من الدهر كان فيه مأزوما، أو كانت الأزمة مستبدة به. ومن ذلك أنه كان - قبل عقود ثلاثة- فكرا طوبوياً: يفكر في الواجب دون أن يحتفل بأمر الممكن، يطلب البعيد قبل أن ينال القريب، يشدد على الإرادة منتبها إلى وجوب تنمية العوامل الذاتية ويهمل الواقع معرضا عن أخذ العوامل الموضوعية في الحسبان. ثم ما لبث - تحت ضغط الأمر الواقع وإرادة المراجعة والتصحيح- أن تحرر من طفوليته الفكرية: من الطوبوية والإرادوية واللفظانية المنبرية ليصير فكر الواقعية الثورية: الفكر الذي يدافع عن مشروع التغيير الثوري، ولكن أيضاً الذي يأخذ مقولة ميزان القوى والشروط الموضوعية في الحسبان دون أن يتخذهما تَكِئة لإسقاط فكرة التحرر الوطني.

أما حين يصل فكر ما إلى مأزق، فإن العود عنه لا يكون بغير تغيير المقدمات والمنطلقات التي أفضت به إلى ذلك المأزق. وفي هذا وجه اختلاف وتباين بين حال الأزمة وحال المأزق. حين الأزمة تفرض أحكامها، لا يكون الخلل في المقدمات والمنطلقات حكما، فقد تكون هذه صحيحة، لكن البناء عليها (= المنهج أو طريقة البناء أو طريقة الاستنتاج والحكم...) غالبا ما يكون مجافيا لما تقتضيه المقدمات إياها أو تحمل عليه. أما حين يبلغ فكر مأزقه، أي طريقه المسدود، فلا سبيل إلى خروجه من انسداد طريقه غير خروجه من ذات الطريق التي أخذته إلى النهاية المقفلة، بل إلى عودته عن المقدمات ذاتها التي أسست لذلك المسار المسدود لأنها - بكل بساطة- مقدمات فاسدة كما يقول المناطقة، والمقدمات الفاسدة تقود إلى نتائج فاسدة. - (التجديد العربي 23 تشرين اول 2005) -