بعيد زيارته لواشنطن, و لقاءه بأركان الإدارة الأمريكية, عاد الرئيس محمود عباس, محملاً بهمٍ جديد, فرض عليه التهيؤ لمرحلةٍ ستكون لها جولاتها القاسية عما قريب, بعد أن سمع تلميحاتٍ من الرئيس بوش, تفيد بأن فلسطين يمكن اختصارها في غزة, بحيث يكون الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة و شمال الضفة الفلسطينية, أكبر كرامات الضغط الأمريكي على دولة الاحتلال الإسرائيلي, و أكثر العطايا الإسرائيلية تصدقاً و تكرماً, و أبلغ الرسائل العبرية تودداً لكل محبي العدل و السلام, و آخر الهبات التي يمكن أن ينالها الفلسطينيون من شارون, ففهم الدكتور عباس الحكاية, و رجع ينبه كل من يهمهم الأمر, قائلا أنه قد شم في واشنطن رائحةً خبيثة, وهي ذاتها التي يمكن وصفها بالمؤامرة.

لعل حكاية الدولة الفلسطينية, التي تكون حدودها غزة, و مطارها و ميناؤها غزة, و عاصمتها و ساريتها غزة, و مدنها و قراها قطاع غزة, و أرضها و سماؤها غزة, و صحراؤها و خضراؤها غزة, و ماؤها و بحرها و نهرها و ملحها و خبزها و عشبها غزة, هي ما يروج له شارون و حكومته, بعد أن أسهبوا في وصف الوجع الذي ألم بإسرائيل, نتيجة الخروج من هذا الشريط الساحلي المكتظ بالسكان! هذا الذي طالما تمنوا أن يهيج البحر عليه, فيبتلعه في إحدى لحظات الجنون أو اللاوعي, لتصبح الكرة الآن في ملعب الفلسطينيين, الذين سيكونوا أمام العالم عما قريب, قد تحرروا و حصلوا على أراضي احتلت عام 1967م في القطاع و أجزاء من الضفة ! و نصبح في خانة المطالبين بإثبات حبهم لوطنهم ! و بنائه و تعميره و الوصول به إلى ذرى التقدم و المجد من غير إساءة سلوك! و ذلك دون أن يحق لنا أن نسأل عن أيٍ من حقوقنا الأخرى, التي تعني الحد الأدنى من فلسطين.

وصف الرئيس الآلهة جورج بوش, خطوة الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة و شمال الضفة, بالخطوة الشجاعة و المؤلمة ! و كأنه يتحدث عن عطاءٍ سخيٍ و تنازلٍ إسرائيليٍ موجع, عن قطعةٍ من أرض الميعاد, لأناسٍ لا يستحقون كالفلسطينيين, وفق الرؤية الاستيطانية و الرواية العبرية المتطرفة ! كما تحدث الرئيس الأمريكي عن المواطنين من سكان قطاع غزة, قائلاً "شعب غزة" !َ مبتعداً عن قول الشعب الفلسطيني, و أشار إلى شارون برجل السلام الشجاع ! و تلك كلماتٌ ليست عبثية أو عارضة, لأنها تحمل مضاميناً سياسية, تبشر باعتصار الحلم الفلسطيني و إفراغه في القطاع, لتكون غزة هي جغرافيا الدولة الفلسطينية و خارطتها, و ما بعدها لا شيء.

و في الوقت الذي لمس فيه الرئيس أبو مازن, التوجه الأمريكي القاضي بفرض السلام بوجهةِ النظر الإسرائيلية, و التأكيد أن الأراضي التي يتم منها الانسحاب هذه الأيام, هي آخر المطاف حالياً, فإن تل أبيب تسعى للاستفادة من هذا الانسحاب, و تسويقه للعالم على أنه خطوةٌ كبرى على طريق حل الصراع العربي الإسرائيلي, و تصوير الجندي الإسرائيلي على أنه محارب يدافع عن دولته و كيانها, من أي هجماتٍ محسومة بالوصف سلفاً على أنها إرهابية, كما تسعى إسرائيل و بدعمٍ أمريكي, لكسر حالة الجمود الإقليمي التي تعيشها منذ أن تأسست, عبر إقامة علاقات دبلوماسية علنية مع الدول العربية و الإسلامية, و ذلك من خلال التأكيد على تبخر الاحتلال, من مناطق كان الفلسطينيون يطالبون بها منذ أكثر من 38 عاماً.

ليس في هذه الفترة أمام الفلسطينيين, إلا المزيد الصبر و العمل و من التحرك السياسي الدولي, لفضح الممارسات و الخطط الإسرائيلية, التي تهدف إلى ابتلاع الضفة الفلسطينية, و إحكام الطوق على القدس المحتلة, على طريق تهويدها و إفراغها من السكان العرب, و تكريس الاستيطان في كافة المناطق المحتلة, و عزل قطاع غزة عن باقي الأراضي الفلسطينية, و تهويد الجليل و النقب, و السيطرة على القطاع و تقويض حركته التجارية, و جعله منفىً أو سجناً كبيرا و غير ذلك, كما ينبغي على السلطة الوطنية تفعيل المؤسسة الدبلوماسية الفلسطينية, و التوجه لخلق قواعد تفاعل مشتركة بين مواطني الضفة و القطاع, بكافة الأشكال, و توحيد الخطاب السياسي و الاقتصادي و الأمني فيما يخص سكان المنطقتين, على أنهما جناحي طائرٍ واحد للدولة الفلسطينية, فيما تتأكد حاجة الفصائل الفلسطينية, للنظر إلى الانسحاب على أنه نصر موضعي و ليس أكثر, جاء في حالة انكسار استراتيجي, و عدم الخروج عن طور المعقول, في الاحتفال بهذا الإنجاز و تصويره على أنه فتح المدائن, بحيث يتم الترويج من حيث لا يعلمون للرواية الإسرائيلية, القائلة أنهم قد أخذوا كل ما يريدون.

بينما يجب أن تكون كل الدول العربية و الإسلامية, على وعيٍ تام بما يجري على أرض الواقع, و عدم الإنجرار وراء ما يروجه أو يتمناه الإسرائيليون, بحيث لا نرى دولةً تقدم ولاءها و برائها لتل أبيب باسم القضية الفلسطينية, كما فعلت باكستان, دون أن يكون المقابل سوى تقوية القاتل على حساب ال=D

مفتاح (5/9/2005).