بما لا يدع مجالا للخلاف والجدل والنقاش... فإن عملية إغتيال اللواء موسى عرفات في غزة فجر الأربعاء 7/9/2005م هي بمثابة التطور الأخطر والأعقد الذي شهدته الأراضي الفلسطينية على الأقل في سنوات إنتفاضة الأقصى الحالية : سواء من حيث التوقيت والإنشغال بالإنسحاب الصهيوني من القطاع , أو من حيث المكان كونه وسط ثكنات أمنية وعسكرية محصنة ومحاطة بأفراد الأمن الفلسطيني , أو من حيث حجم وعدد المنفذين للإغتيال , أو من حيث مكانة الشخصية التي تم إغتيالها ومركزه التنظيمي والرسمي والعسكري...
ولو أردنا أن نبحث عن أسباب ودوافع الإغتيال , والجهات التي قد تكون وراءها , بالتأكيد سنجد لأنفسنا العديد من الزوايا التي من الممكن أن نحللها ونذكرها في هذا الموضوع , لأن عملنا الإعلامي يتقاطع مع العمل الشرطي الجنائي في البحث عن الحقيقة, حتى في طرق التفكير والربط بين الأشياء, والإستنتاج , وأحيانا في الحدس والتخمين, ولكن كل ذلك لابد له من الإستناد إلى الأدلة والمعلومات والبراهين. بناء عليه فإننا من المكن أن نطلق لكلماتنا العنان في التعبير عن إستفسارات الرأي العام التي تركز على جهة التنفيذ: فقد يتجه فريق نحو تحميل الإحتلال الصهيوني المسئولية المباشرة عن الإغتيال لأسباب عديدة وكثيرة من أهمها زرع الرعب وسط الفلسطينيين, وإفقادهم للأمن , والثقة بالواقع, و تفريغ فرحة الإنتصار الجزئي من محتواها ,والجميع يدرك أن الإحتلال لا يوجد أمر مستبعد عليه فعله!!!
وقد يتجه فريق آخر نحو الخلافات العاصفة التي تشهدها حركة فتح , و دورها في إيجاد مراكز قوى متصارعة, ولعل هذا الفريق يستند إلى آخر خلاف وقع بين اللواء موسى عرفات وبين وزير الداخلية نصر يوسف , والوزير محمد دحلان!!!
وقد يتجه فريق ثالث نحو دور جهاز الإستخبارات العسكرية الذي أسسه موسى عرفات وترأسه طوال فترة عهد ياسرعرفات في إعتقال مئات الموا طنيين وإستخدام كافة أساليبب البطش والتحقيق على قضايا سياسية ومدنية , وإحتمال وجود حالة من الإحتقان ضده ولدت الإنتقام والثأر!!!
وقد يتجه فريق رابع نحو إتهام حركة حماس له في الضلوع بعملية إغتيال مهندسها رقم واحد يحيى عياش في يناير من عام 1996 م , الأمر الذي سجلته حكومة الإحتلال على نفسها كأول جهة تروج لهذا الرأي, ونفته حماس !!!
وقد يتجه فريق خامس نحو العلاقات التجارية والشخصية لموسى عرفات , وما قد يسببه الولوج في تجارة الأسلحة أو الأراضي... من خلافات يكون مصيرها الإنتقام والثأر!!!
هكذا يتم تفكيك لغز الأزمات في التشريح للمواقف الظاهرة, وربطها بالواقع المعاش , لإستشراف ما وراء الستار. ورغم تقاطعنا كصحفيين باحثين عن الحقيقة مع رجال المباحث وفرق التحقيق التي تحقق في الحوادث والظواهر, إلا أنني أقول أن التحقيق الجنائي الجريء والقوي من شأنه توضيح أي عملية إعتداء مهما كانت معقدة كهذه التي بين أيادينا , لذا أرى من واجبي أن أعالج الموضوع من زوايا أخرى لأبحث عن السبب الرئيس والأساس لعملية الإغتيال.
لا أتصور أنني أظلم أو أبالغ أو أجافي الحقيقة إذا ما قلت أن السبب في عملية الإغتيال هو السلطة الفلسطينية بمكوناتها المادية والرمزية والبشرية , وذلك لأنها تركت الحبل على الغارب لقادتها الأمنيين على كافة مستوياتهم كي يتغولوا على الناس: فقتلوا , وظلموا, ونهبوا, وعربدوا , وفعلوا ما يمكن أن يشبع شهواتهم ونزواتهم... ولأنها عطلت تطبيق القانون, وعملت على إستدعائه وقت الحاجات الخاصة والفئوية لدرجة أنها حولت تطبيق القانون إلى سبيل للظلم والضيم والإحتقان فبات دون جدوى أو ثقة أو هيبة... ولأنها بذلك سمحت للقاتل والمعتدي أن يكرر جرائمه بحق المواطنيين , وبررت للمظلوم وصاحب الحق أن يأخذ حقه بيده , فرأينا العائلات أخذت حقها من مسئولين كبار في السلطة , ورأينا إقتحام مركز التجمع الأمني (السرايا ) لتصفية العملاء والقتلة , ورأينا فئات مهضومة الحقوق كالمعلميين والعمال وأفراد من الشرطة , ومجموعات مسلحة... تعتصم وتغلق الطرق وتشعل الإطارات... ولأن السلطة إحتكرت وسائل الإعلام الرسمية , وسمحت لبعض كتابها ومنظريها أن يطالبوا بحرب أهلية , وإعلان التعبئة العامة ردا على عمل إعلامي لفصيل معين ضمن إحتفالاته بالإنسحاب ,وهي التي أذنت لوزارة الداخلية أن تستخدم أسلوب التحريض المبرمج الذي من شأنه أن يشق الصف ويوتر العلاقات مما أدى إلى تهتيك النسبج الإجتماعي, إنني أعتبر أن حجم البيانات المشحونة من جهة رسمية كوزارة الداخلية , ومضامين المقالات من قبل رموز في السلطة , كلها تدفع نحو إحتقان لا يمكن أن يستفيد منه إلا جهات متنفذة لا يعنيها مصالح الشعب ولا السلطة ولا الفصائل, كما أن سياسة تشويه المقاومة وتحقيرها ولمزها وغمزها بل والتصريح بالهجوم عليها خلقت حالة من التوتر , وأوجد ت هوة كبيرة بين أبناء الشعب الواحد.
إذن السلطة من خلال حزبيتها , وإحتكاراتها , وإقصائها للآخر , و ترعرع الفساد بين أروقتها ,وتغيب القانون , وتحقير القضاء , وغياب العدل في الممارسة... أفقدت نفسها كيانيتها , وأضاعت قوتها وهيبتها , مما أسس على مدار السنوات العشر الماضية حالة من فقدان ثقة الناس بها الأمر الذي شجع على حالة الفلتان الموجودة , التي تصاعد لدرجة وجود الإغتيالات, ولعل من النتائج الخطيرة لهذه الحالة هي نظرات الشك والريبة من قبل السلطة لأي سلوك للفصائل وخاصة الكبيرة , فباتت السلطة تهاجم كل الفعاليات التي لم تقم بها هي , وتشكك في نوايا القائمين عليها , وتنظر بعين الريبة لكل تصريح أو مقال أو ندوة أو بيان أو نشرة أو لقاء صحفي يوجه النقد لها... وكأنها باتت مستعصية على النقد , ولا تريد من أحد أن ينطق بكلمة بحقها , وإلا التهمة جاهزة : وهي محاولة السيطرة والإنقلاب على السلطة!!!
لا أعتقد أنني ذهبت بالقارئ بعيدا عن الموضوع , بل أعتبر أن عملية الإغتيال للواء عرفات تأتي في هذا السياق . من هنا أقول أن السلطة قد تنجح في التعرف على جهة الإغتيال, ولكنني أشك في مقدرتها على فعل شيء لها في ظل الظروف المعاشة. لذا فإنني أدعو إلى حل جذري يعيد الأمور إلى نصابها , وخاصة أننا على أعتاب أن نكون أحرارا في إدارة جزء من أرضنا , الأمر الذي يريد نهضة , بل ثورة قانونية ودستورية ضد الفساد , وضد مسببات الفلتان الأمني , وحينها يتم ردع الظالم , وإنصاف المظلوم , فالجميع يخضع لقوانين السلطة العادلة . ما دون ذلك لا أتوقع أن تكون عملية الإغتيال هذه الأخيرة وأخشى من تصاعد الأمور وتعقيدها وتأثيرها على الكل الفلسطيني.