لأن الناس في بلادنا, ليسوا شركاءً في الماء و لا العشب و لا الكلأ, جاءت مكرمة حكومتنا الرشيدة, لتخص رواتب العسكريين في السلطة الفلسطينية بزياداتٍ سنغافورية, في وقتٍ تتصل فيه الشكوى الرسمية, بحالة ادعاء ضيق ذات اليد السلطوية, موثقة بقصصٍ يسردها عمال بيت المال, تؤكد مآل وزارة المالية الفلسطينية, و ما تعيشه من صعوبات, تجعل دفع رواتب الموظفين الفلسطينيين في بعض الأحيان, أشبه بالمعجزة, و تضع كافة أشكال القابضين أواخر كل شهر, في دائرة توقع عدم القبض في الشهر الذي يليه.

فعلى الرغم من كل اسطوانات الشكاية, التي تُسمعنا إياها السلطة الوطنية, بعدم قدرتها على استغلال الموارد البشرية الفلسطينية, و تشغيل الطاقات الشابة, و الانتفاع من أصحاب الكفاءات العلمية, و توظيف ذوي الشهادات و المؤهلات, في وزارات و مؤسسات السلطة, لعدم إمكانية توفير بنودٍ مالية, و ما يُستوحى من ذلك, الذي يحتم على كل أولئك المطالبين بمكانٍ لهم في مجتمعهم و وطنهم, بضرورة عدم إساءة السير و السلوك, أو المطالبة بوظائف تلبي الحد الأدنى, من العيش فاقع اللون على الأقل, تجيء قرارات السلطة بزيادة رواتب موظفي أجهزة الأمن الفلسطينية, بواقعٍ يقدر بنحو 30%, بحيث فاق راتب الجندي في أي جهاز أمن, راتب طبيبٍ أو مهندسٍ يعمل في السلطة منذ سنوات بعقد بطالة دائم, فيما لا يزال ينتظر التثبيت !

لعل مسألة زيادة الرواتب, محمودة عند فقهاء كافة المذاهب, أينما ولينا الوجوه, و لكن وضعاً كالذي نعيش في فلسطين, يقتضي الرجوع للواقع, عند إصدار أي تشريعٍ أو فتوى كهذه, سيما و إن كان الأمر يتعلق بوسائط الرزق و سبل الحياة, و إلا ستكون القرارات استفزازاً للعقل, و استخفافاً بالمنطق, و تعبيداً لطريق التمييز و التفريق,,, تماماً؛ كما كان قرار زيادة رواتب موظفي السلطة العسكريين, قبل أقل من أسبوعين, الذي شكل صدمةً لكل قطاعات المنتظرين , في طابور الخريجين و العمال العاطلين عن العمل, و خلق حالةً من التذمر و اليأس عند العلماء و البسطاء على حدٍ سواء, الذين صاروا يسألون ؛لمَ لم تستخدم هذه الأموال التي ضُخت إلى الرواتب كزيادات, في تشغيل أكبر قدرٍ ممكن من الأجدر و الأولى بالعمل في مؤسسات السلطة؟ و لماذا يتم زيادة موظفي الأمن دون غيرهم؟ فيما بعض القطاعات العاملة في وزارات الدولة, كسائقي سيارات الإسعاف, و آخرين يعملون و هم أشد بؤساً, و أكثر قهراً و ضعفاً أمام سطوة الفقر؟ و ما هي حقيقة شكاوى السلطة المالية المتكررة؟ و أين العدالة الاجتماعية في توزيع الاهتمامات على الذين يستحقون؟ و غير ذلك من الأسئلة التي تولد أسئلة جديدة.

تأتي هذه الزيادات لأفراد الأجهزة الأمنية, كي يحسبها أو يظنها من لا يدري, على أنها نتيجة منطقية لأمنٍ منضبط, وواقع مستتب, فيما نحن بحاجةٍ إلى نساءٍ نداباتٍ صارخات, يرثين الحالة الأمنية التي وصلنا إليها, بحيث تعدى الفلتان الأمني حدود الظاهرة, و صار فكرة, و ليس أدل على ما نقول, من قيام ما يقارب مائتي شرطي قبل أيام بإطلاق النار في الهواء, و إحراق إطارات السيارات في الشوارع, و تعطيل حركة السير في جنوب مدينة غزة, لعدم حصولهم على تلك الزيادة عن طريق الخطأ أو القصد, بينما أصبحت البلطجة مرجعية للمتنازعين, في ظل غياب تفعيل القوانين, و صار المتخاصم مع زوجته يستطيع إغلاق أكبر شوارعنا السنغافورية احتجاجاً, إلى حين أن تعود المرأة إلى بيتها و ترجع من دار أهلها, ليخضع المجتمع الفلسطيني لمزاجية لصوصي الظلام, بمباركة رجال الأمن, الذين يهيئون فلتاناً أمنياً قانونياً, و ذلك إما بالعجز و عدم المقدرة على معالجة الأوضاع, أو باتخاذ موقفٍ حيادي, و كأن الأمر لا يعنيهم.

لا أحد منا يتمنى أن يبقى العسكري الفلسطيني, في حالة العوز و الحاجة, مع أنه لم يكن كذلك بالقياس مع غيره, إلا أن الزيادة المالية جاءت في غير زمانها و مكانها على الأقل, بحيث تسبق الكماليات هنا الأساسيات في الأولوية, و تغيب الحكمة عن كل الفضاءات الحكومية الفلسطينية, عبر إساءة استخدام ما تيسر من المال في الميزانية, و إسقاط أهمية ترقيع الثوب الفلسطيني, و تغطية الرأس و ترك أماكنٍ حساسةٍ أخرى دون لباس. - (مفتاح 12 أيلول 2005) -