حلت الذكرى الثالثة لما كان سماه الرئيس بوش “نهاية حرب العراق بالانتصار على الإرهاب وخلق عراق جديد”. وتسرّع فشد الرحلة إلى بغداد للاحتفال بانتصاره وسط كوكبة من الجيش الأمريكي. وطيلة السنوات الثلاث الماضية لم يملّ من تكرار وإعادة نفس الخطاب، مؤكداً على الانتصار، ومداعباً أحلام الشعب الأمريكي بنجاح مشروع عراق ديمقراطي حر يتمتع بالهدوء والسلامة والاستقرار، ويشكل النموذج الأمثل لما يجب أن تكون عليه نظم الشرق الأوسط الكبير.
لكن خُطب بوش في الذكرى الثالثة اختلفت إلى حد كبير عن سابقاتها، فلم تحفل بالوعود، ولم تزف البشرى إلى الشعب الأمريكي بقرب عودة الجيش الأمريكي إلى الأسَر الأمريكية التي طال عليها الأمد وهي تنتظر عودة أفلاذ كبدها. ولم يحدد الرئيس تاريخا للعودة المنتظرة، بل قال مخيبا الآمال: “لا يمكن تصور انسحاب الجيش الأمريكي من العراق قبل أن تتأهل قوات الأمن العراقي للقيام بمهمة السهر على استتباب الأمن. والانسحاب الكامل للجيش الأمريكي لن يؤدي إلا لتقوية الإرهاب الذي ما يزال أمامنا وقت طويل للقضاء عليه”.
وفي خطبه بمناسبة الذكرى الثالثة للانتصار الموهوم، لم يتحدث الرئيس -ولو بالإشارة- عن صيرورة النظام الديمقراطي في العراق الذي كان أطلق عليه اسم “العراق النموذجي للديمقراطية”. كما لم يشر الرئيس إلى تفاحش عدد القتلى الأمريكيين والعراقيين الذين سقطوا في “الحرب بدون أموات”.
خُطب بوش بمناسبة الذكرى الثالثة لم تذكر ولو بالإشارة شيئا عن مخططه الذي أعلنه بعد 11 سبتمبر/ ايلول. وكان يقوم على غزو الولايات المتحدة بعض الأقطار الماردة بوسيلة الحروب الاستباقية المباغتة في الشرق الأوسط الكبير الذي سيصبح مجموعة أقطار مفتتة طيّعة وتابعة للولايات المتحدة بوصف الحليف. على العكس من جميع ذلك جاءت خطب الرئيس الأمريكي خلال شهر مارس/آذار الماضي تعكس معاناته من المأزق العراقي الذي وقع فيه بدون أن يحسب له حسابه. ولم يتجاوز الرئيس في هذه الخطب التأكيد على أن انسحاب الجيش الأمريكي من العراق سيكون كارثيا على العالم لأنه سيشجع الإرهاب ويقويه، وسيكون انتصارا لقوى الشر على جبهة الخير الصامدة في وجهه. وبتصريحه هذا خيب آمال آلاف الأمهات اللواتي كن ينتظرن الإعلان عن موعد سحب أبنائهن من جحيم العراق.
كل ما قامت به الولايات المتحدة مضطرةً بالعراق جاء يسفه المخطط الأمريكي. وإذا كان بوش قد نظّر لحرب بدون أموات فقد جاءت الإحصائيات عن عدد الموتى بين الأمريكيين تفضح قصور النظرة عند الطاقم الأمريكي الذي كان وراء صنع المخطط الحربي. وهي تقول: “إن عدد القتلى الأمريكيين أمسى يتكاثر، وإنه يزيد على ألفين وثلاثمائة جندي (حسب إحصائيات وزارة الدفاع الأمريكية) بينما قيل عنه إنه أكبر من ذلك. كما أن تعاليق الجهات الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية تعطي إحصائيات مرعبة عن تصاعد عدد الضحايا العراقيين. وتختلف الإحصائيات في تحديده ما بين خمسين ألفا وخمسة وسبعين ألفا.
وقد أصبح تقييم حرب العراق موضوع نزاع عبر العالم بين من يرون أن الحرب كانت ضرورة لا محيد عنها، وبين من يقولون إنها كانت خطأ، وبين من يقولون عنها إنها جريمة حرب. وقد أدانت محكمة منبثقة عن المجتمع المدني بمصر - وتألفت من قانونيين ومحامين- كلا من الرئيس بوش ووزير الدفاع رامسفيلد وبعض أعوان الرئيس. وأصدرت حكمها عليهم بأنهم مجرمو حرب.
أما عن عدد الموتى العراقيين الذين سقطوا في “الحرب بدون أموات” فإن الإحصائيات تعجز عن ضبطه وتجمع على أنه يتجاوز 30 ألفا. وهو ما نسبته وكالة “أسوشيتدبريس” إلى الرئيس بوش نفسه. وزادت تقول: “في تكرار مشهد توافد جثث المدنيين العراقيين بشكل متتابع كل يوم على مشرحة بغداد، لا يستطيع المشرفون على المشرحة ضبط أعداد هؤلاء القتلى وهم يُعدّون بعشرات الآلاف”.
وذهبت بعض مراكز البحث في الولايات المتحدة إلى القول إن العدد يتجاوز 50 ألفا. وقال بعضها إنه يتجاوز 75 ألف قتيل. والبنتاجون يمتنع عن إعطاء أي بيان رقمي عن القتلى العراقيين، ربما لأنه يتجاوز ما تردده وكالات الأنباء العالمية.
وفي الذكرى الثالثة لما سمي “الانتصار على العراق” تعالت أصوات المعارضة للحرب، وازداد عدد نخبة المفكرين والمثقفين المنددين بها، وانتقدوا مبادرة الرئيس بوش إلى شنها بدون مبرر. وركزوا على إدانته. وتحول “فرانسيس فوكوياما” صاحب كتاب “نهاية التاريخ” من مؤيد للحرب وداع للإطاحة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين إلى مندد بالحرب وسياسة بوش بالعراق. ومما كتبه عن ذلك ساخرا: “حققت الإدارة الجهوية الأمريكية في العراق نبوءة كانت متوقعة: هي أن العراق أصبح الآن بديلا لأفغانستان، إذ تحوّل إلى أرض خصبة للجهاديين، ومركز لتدريبهم، وقاعدة لعملياتهم، يتوفر له فيها بسهولة استهداف الأمريكيين قتلا وتنكيلا”.
وأقر خمسة من صقور الإدارة الأمريكية ممن كانوا من صانعي مخطط الغزو الأمريكي للشرق الأوسط في مارس/ آذار 2003 بأنهم كانوا مخطئين في إقناع الرئيس الأمريكي بالمخطط، معربين عن أسفهم لحالة العراق الذي أصبح معها بديلا لأفغانستان. ولأول مرة في تاريخ المديونية الأمريكية يعترف الجميع ببلوغها سبعة تريليون دولار بسبب الحرب على العراق. واليوم ولأول مرة في تاريخ الكونجرس أصبح المجلسان منقسمين إلى كتلتين: مؤيدي حرب العراق ومناهضيها. ويلتقي في كل كتلة ديمقراطيون وجمهوريون. وشأن العراق الخطير أهم بكثير من الانتماء إلى هذا الحزب أو ذاك. وهذه ظاهرة جديدة لم يعرفها الكونجرس قبل اليوم.
وفي نطاق توزع الكتل السياسية وأعضاء الكونجرس بين من لا يزالون يؤيدون حرب العراق وبين من يعارضونها أمضى أعضاء (في الكونجرس) ديمقراطيون وجمهوريون على عريضة تدعو إلى تطبيق مسطرة العزل على الرئيس بوش، وأصبحت كلمة “الأمبّيشمانت” تلوكها ألسن الديمقراطيين والجمهوريين على السواء.
وإذا ما نجح الديمقراطيون في الظفر بالأغلبية في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، فإن التفكير في عزل بوش قد يأخذ طريقه إلى التنفيذ.
وفي انتظار توفر الشروط القانونية للشروع في تطبيق مسطرة العزل قال عضو مجلس الشيوخ “روسل فينكولد” المرشح المحتمل للرئاسة في الانتخابات المقبلة: “إنه يرى من الأفضل مؤقتاً تطبيق تدبير المراقبة الدستورية على الرئيس عقابا له على مخالفته للدستور بإذنه وموافقته على التنصت على المكالمات الهاتفية في نطاق محاربة الإرهاب”. يضاف إلى ذلك نزول شعبية بوش إلى نسبة 33% وشعبية نائبه ديك تشيني إلى 8%.
كل ذلك (وغيره كثير) يعني أن مخطط الغزو المباغت للأقطار الماردة قد سقط ولا عودة إليه، وأن المخطط الجديد الذي لم يعلن عنه البيت الأبيض غيّر أسس المخطط القديم. وقد كنت كتبت على صفحات هذه الجريدة منذ سنتين مقالا بعنوان: “لن تقوم في الشرق الأوسط حرب ثالثة بعد حرب العراق”. ولحسن الحظ لم أخطئ التقدير. وما زلت مؤمنا بأن الولايات المتحدة لن تغامر بالدخول في حرب أخرى. وعلى من لا يملك وسائل سياسته أن يقتصر على سياسة وسائله.
contact@abdelhadiboutaleb.com www.abdelhadiboutaleb.com - الخليج الاماراتية 3/4/2006 -