يدرك عاقل أن مرحلة من مراحل النضال لم تكن حرجة و دقيقة, كهذه التي نحياها و تعيشها القضية الفلسطينية, و تشهدها الساحة بكل تفاصيلها اليومية , فيما تؤكد التقلبات الجيوسياسية التي عصفت بالمنطقة, و تفاعلت بها و معها القضية الفلسطينية, أن اليوم يختلف عن الأمس بالحسابات البسيطة و المعقدة لغير الصالح الفلسطيني, فأمام واقع الاستشراس الإسرائيلي الذي يريد سبي فكرة الدولة الفلسطينية قبل ولادتها, نجد أنفسنا نتنفس المستقبل الذي استشرفه لنا الشاعر محمود درويش في قصيدته الشهيرة ؛ مديح الظل العالي, قبل ما يزيد عن عقدين من الزمان عندما قال " إلاك في هذا المدى المفتوح للأعداء و النسيان ... لا أحد ", و ها نحن نعيش حياة الألم وحدنا ثم لا أحد ,فيما نجد الفرض المستوجب حاليا على أبناء الوطن و البيت الواحد التزام سياسة الانتماء و التوحد في العطاء, بغض النظر عن التباينات الأيدلوجية لكل راية تحمل شعار فصيل, أو عن الاختلافات التي يجب أن تكون من أجل مصلحة الوطن, و ليس على حساب الوطن, كما هو حاصل في الفترة الأخيرة بين عموم الأنبياء و الأولياء في بلادنا .
فمنذ الدخول المظفر لحركة المقاومة الإسلامية حماس, إلى باحة المجلس التشريعي الفلسطيني, المقرون مروراً بكل شعارات التمكين و أصوات التهليل و عبارات التكبير, و تلاوة ذات آيات الانتصار, التي كانت تُتلى على الفضائيات و في المهرجانات و تُكتب على صدر البيانات القسامية, عند إنجاز أي عمل عسكري مقاوم ضد أهداف إسرائيلية, و ما تبع ذاك الدخول الأخضر إلى واحة السياسة و التشريع, بقلوب تعمرها الإيمان بدين الله تعالى طبعا, و عقول أقامت دولتها في نفوسها الممتدة زمناً منذ بعثة الرسول الأعظم و حتى يومنا هذا, من بوابة اتفاقية اوسلو التي أتاحت للمجلس التشريعي الوجود أصلا, و نحن نسمع جعجعة و لا نرى طحنا, فيما تندفع رجالات السلطة و المعارضة للغوص في سجالات و أحاديث جانبية, يدفع ثمنها حتماً ما تبقى من الوطن و الشعب كل الشعب, فيما يصبح اللغط سيد كل نقاش يدور بين اثنين أو أكثر, في وقتٍ يسير المحتلون في طريقهم نحو تنفيذ ما يريدون تنفيذه , تحت غطاء القوة و ضرب الشرعية الدولية بكعب الحذاء, مستغلين التهاء قيادات شعبنا الرسمية و الحزبية في مناقشة قضايا أبعد ما تكون عن مصلحة شعبنا و هموم البلاد, التي ملت نفسها .
لم يكن في الحسبان أن نؤول إلى ما آلنا إليه من واقع متردي, أصبحت في الشخصيات و التنظيمات أكبر من الوطن, و صارت التعبئة السلبية تسيطر على سلوكيات الكثيرين من المتحزبين لفصائل ما, كنتاج تلقائي لحالة الإحباط و اليأس و الاكتئاب التي تسيطر على نفسيات معظم الشركاء في العشب و العشب دونما ماء أو كلأ من عامة المواطنين, و ما يمتزج معها من شعور بالظلم أساسه الاحتلال أصلا و ينعكس على كل مناحي الحياة, فيما يرى بعضنا أنه ناتج عن تصرفات البعض الآخر, لتتجه أصابع البعض الفلسطيني للبعض الآخر, و تكون نقطة البداية لكل حدث مشين, من شأنه تشويه المشهد الوطني المشرف أمام العرب و العجم على حد سواء, و تعكير صفو المزاج الفلسطيني الذي يجب أن يتفرغ لابتكار وسائل حياة أمام كل آلات الموت و البطش الإسرائيلية.
فحالة تبادل الاتهامات و معركة التصريحات بين الشخصيات و الرموز الوطنية؛ معارضة و سلطة, و ما يتبعها من سب و قذف و تخوين و تكفير, لا تسيء إلى أحد بعينة دون آخر, و لا تستثني فصيل أو تيار على حساب آخر, و لا تنأي بنفس الانطباع المأخوذ عن مدافع عن ذاك النعت المطبوع به مهاجم أو العكس, فالحالة ككل تسيء إلى تاريخ شعبنا النضالي, و تحدد مكامن الخلل في الذات الفلسطينية, فيما ينسحب الانطباع الذي يتسم به القياديون الفلسطينيون سلباً على باقي شرائح شعبهم, فيغيب الوجه الحضاري الفلسطيني و يظهر وجه جديد غير محمود, باهتزاز منظومة القيم و قاعدة الأخلاق الحميدة, و حلول سلوكيات ذميمة مكانها؛ سببها السجال القائم , و ليس أدل على ما نقول مما حدث قبل أيام من تدمير حل بأكبر جامعتين في القطاع, بسبب تصريح بغيض أساء لنا كثيراً .
فالأجدر بالقيادات كافة التوحد خلف أهداف و غايات وطنية بحتة, و التمترس في خندق المصلحة الوطنية, و تفويت الفرصة على المتربصين بنا شراً , و اعتماد لغة الحوار أسلوباً لحل الأزمات, و التعرف على أدب الاختلاف, كي لا نكون أضحوكة للعالمين, و كي لا نعطي المجال لأنفسنا بغوغائيتنا أن نخسر بعض التأييد و التعاطف الشعبي العربي و الإقليمي مع قضيتنا العادلة, لأن المعادلة لا تحتمل المزيد من الخسارات , فيما العجب كل العجب من انسياق بعض الإعلاميين و الكتاب و الصحفيين للمساهمة في مثل هذه المهزلة, التي تخلق احتقاناً حقيقياً بين بسطاء القوم, في وقت هم الأجدر للقيام بتهدئة الساحة و خلق حالة توازن في ذروة الهيجان, فلأولئك المثقفين و كل العقلاء نقول : دعوا القياديين كافة و خلافاتهم, دون إذكاء نيران أي فتنة إن لم تستطيعوا إخمادها, فإنهم ينشرون غسيلنا . - مفتاح 27/4/2006 -