بكى امام العالم ثلاثة رجال من المسؤولين العرب ، وفي حياتي لم اشاهد مسؤولاً يبكي امام العالم إلا من أمتنا العربية ، والثلاثة محقين في بكائهم لأنهم بكوا من أجل الوطن ، والوطن يستحق الدماء والدموع ، وتقديم الغالي والنفيس ، وهل أغلى من دموع الرجال أمام العلن وعلى المكشوف؟

المسؤول الأول الذي بكى أمام العالم هو أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد رحمه الله وذلك إثر احتلال الكويت من الجيش العراقي عام 1990. والمسؤول الثاني هو الدكتور ناصر القدوة عندما كان مندوباً لفلسطين في الأمم المتحدة إثر مجزرة مخيم جنين بل المعركة الأسطورية في مخيم جنين. والمسؤول الثالث هو السيد فؤاد السنيورة رئيس الوزراء اللبناني الحالي وبكى يوم أمس بالتحديد إثر العدوان الاسرائيلي المدمر على لبنان والذي ما زلنا نعيشه حتى اللحظة. ولكن شتان ما بين ردود الأفعال والأثمان المدفوعة في هذه الدموع (دموع الأغنياء ، ودموع الفقراء ، ودموع المسحوقين). والدموع بين القوسين مرتبة من الأغنى الى الأفقر وحتى تنتهي بالمسحوق فقراً. والأغنى هو الكويت والفقير لبنان والمسحوق فلسطين. فالكويت مركز أرباح وكنز من الذهب الأسود ، ولبنان الحالة مستورة والحمد لله على الخبز والبطاطا والتبولة لعامة الشعب باستثناء بعض الأباطرة وحاشياتهم ، أما فلسطين فهي مركز تكلفة مادية ومعنوية واصبحت كالحالة المرضية المستعصية ، وما يُدفع عليها من علاج صار من باب رفع العتب واللوم عن اقارب المريض ولا يُنتظر منها ربحاً ولا شفاءً من السرطان الصهيوني. والجهود مبذولة من أجل بتر العضو المصاب حتى لا يمتد السرطان الى الأعضاء الأخرى من الجسم العربي وذلك من وجهة النظر العربية قصيرة المدى التي لم تقرأ جيداً هذا السرطان الخبيث والذي أبكى مسؤولين عرباً رجالاً أمام العالم.

الدموع الكويتية استنفرت مجلس الأمن ديبلوماسياً وكذلك الأساطيل العسكرية البحرية والجوية والبرية والجيوش المدججة من كل أنحاء العالم ومن الإخوة العرب ، وتم مسحها والطبطبة على من ذرفها ، وإعادة البسمة الى شفاه المنكوبين مقابل فواتير باهظة التكاليف ، وعوائد قيمة على من ساهم في تحريرها سوى الإخوة العرب الذين شاركوا في معركة التحرير وخرجوا بخفي حنين من تلك الحرب اللهم بعض الرضا من الأسياد وليس كل الرضا. وهنيئاً للكويت تحريرها وكنوزها (اللهم لا حسد) ، وبارك الله لهم في وطنهم وأرزاقهم وأدام عليهم النعم والإستقرار والحرية ، فالشعب الكويتي قدم للقضية الفلسطينية دعماً مميزاً يستحق التقدير. فلا شيء أبغض من الإحتلال ولا شيء أغلى من التحرير والإستقلال ، ومن حق الكويت أن تشتري حريتها واستقلالها بأي ثمن هي تختار.

وفيما يتعلق بالدموع اللبنانية الرسمية ، وفي مقابل الآلة العسكرية الاسرائيلية ، وبعد مجازر يومية في حرب الإبادة البشرية التي تشنها اسرائيل على شعب ذنبه انه جار لفلسطين ، ويطالب بتحرير جزء مغتصب بالقوة من ارضه من قبل اسرائيل وبتحرير أسراه من براثن الهمجية الاسرائيلية ، ويستخدم في ذلك اسلوب المقاومة المسلحة المشروعة دولياً ومن كل الشرائع الدينية. وجدنا أن هذه الدموع لاقت ردود فعل عالمية وعربية باردة ومتباطئة لعل اسرائيل تحسم الموضوع في وأد هذه المقاومة وإسكاتها والخلاص من عبئها في وقت قصير وخاطف يعطي مبرراً لهذا السكوت لفتح الباب أمام واقع جديد يفرض على هذه الأمة المشاريع الإستبدادية والإستعمارية الكلاسيكية القديمة بثوب النظام العالمي الجديد ووجهه الأمريكي القبيح واستسلام النظام العربي لهذا الواقع الجديد.

ولكن المقاومة اللبنانية البطلة خيبت الظنون ، وقلبت التوقعات ، وأفشلت المخططات ، واحرجت النظام العربي الرسمي أمام الشعوب العربية ، وأسالت عرقه من الخجل ، وبعد أن تحرك الغرباء انتصاراً للشعب اللبناني في العواصم الأجنبية قبل العربية ، وبعد أن طُبخت القرارات الدولية في اروقة الأمم المتحدة ، وبعد أن وجدت فرنسا نفسها وحيدة في صف لبنان لعلها تخلص له بعضاً من حقوقه وثمناً سياسياً لانتصاره العسكري ، جاء الحراك السياسي العربي يمشي على خجل واستحياء ، وعلى وقع الدموع اللبنانية الرسمية ، دموع الشعور بالوحدة والعزلة من الأقارب ، ولكن كانت هنالك دموع الفرحة بالنصر العسكري في عيون المقاومين اللبنانيين والشرفاء من اللبنانيين.الولايات المتحدة لا يمكن ان توافق على قرار من مجلس الأمن يستجيب للمطالب اللبنانية لأن في ذلك تعبير عن نصر للمقاومة العربية وعن هزيمة للجيش الاسرائيلي الذي يخوض حرباً بالنيابة عن الإدارة الأمريكية ومشاريعها المريبة في المنطقة وبالتالي هزيمة لها. وبالتلي يمكن أن توافق على تنازلات غير معلنة تماماً كما كان وما يزال اسلوبها في العراق الذي تواجه فيه مأزقاً حرجاً وهزيمة قادمة لا بد من الإعتراف بها من الإدارات اللاحقة لادارة بوش وحكومته المتطرفة.والسؤال المشروع والمطروح على بعض الأنظمة العربية هو: لماذا حاربت من أجل بلد عربي شقيق هو الكويت وأرسلت جيوشها من قارة أخرى وتعلن أنها ليست على استعداد لخوض حرب من أجل لبنان في سبيل تحرير ما احتل من أرضه؟ كان الأجدى بها أن تسكت لأن السكوت في مثل هذه المواقف من ذهب عيار 24.أما الدموع الفلسطينية وما أدراك ما الدموع الفلسطينية؟

إن الدم الفلسطيني ينزف منذ أكثر من سبعين عاماً مضت ، ومن كثرة وغزارة نزفه اختلط مع الدمع وأصبح العرب لا يفرقون بين الدم والدمع الفلسطيني ، وما دام الدم لا يثير فيهم ردة الفعل ، فكيف للدمع أن يثير فيهم شيئاً ، وأصبح الفلسطيني وفلسطين نسياً منسيا. فاسرائيل تخوض حرباً يومية غير معلنة وسرية ضد الفلسطينيين ، وتقتل الانسان وتدمرالطبيعة وتهدم البيوت وتقتلع الأشجار ، ونحن نتدفؤ على سلطة معاقة لا ترقى الى بلدية في دولة مستقلة ولا يتمتع اعضاؤها بحصانة من دولة معتدية ، لسنا شعباً معاقاً حتى نرضى بسلطة معاقة عن العمل ، ويُعتقل اعضاؤها امام نظر العالم الذي اقرها ونحن عضو كامل وعامل في الجامعة العربية ، ويُضرب مسؤولينا من قبل السجانين الاسرائيليين السفلة الزنادقة ، ومعظم مسؤولينا يحملون شهادة الدكتوراة ، ورئيس مجلسنا التشريعي يدخل المستشفى من شدة الضرب على ايدي الأوغاد. ليس لنا من الحكومة والرئاسة والمناصب إلا الإسم ، دوائرنا الحكومية مستباحة ، ومسؤولينا المتعلمين والمثقفين لو أنهم اعتقلوا وضربوا كمواطنين لكان علينا وعليهم أهون من ذلك بكثير. آن الأوان ان نعيد النظر في هذه السلطة المجردة من السلطة ، لا نريد مناصباً والقاباً مفرغة من محتواها ومضمونها ويُحسب علينا أننا دولة في حربنا مع اسرائيل فقط لتقابلنا بأقصى ما لديها من قوة وجبروت مبررة ذلك بتهديد دولة مجاورة لها ونحرم من الحقوق الأساسية لأي دولة في العالم عندما يتعلق الأمر بحقوق الانسان وممارسة السيادة على الأرض والحصانة الدبلوماسية لمسؤوليها.لندعوا الى مؤتمر قمة عربي نعلن فيه استقالة هذه السلطة لعدم تمكينها من ممارسة صلاحياتها ولنعد نعامل على أننا شعب محتل يمارس حقه الطبيعي في المقاومة بالوسائل التي يختارها والتي تناسب امكانياته .ولندعوا الى عقد جلسة طارئة للأمم المتحدة نؤكد فيها استقالة السلطة ، ولتتحمل الدولة المحتلة مسؤولية احتلالها للأرض والشعب ، فحتى غزة التي انسحب منها الاحتلال ما زالت تعاني من ويلات المحتل. فلنضع نهاية واحدة لهذه المهزلة والمسرح الساخر بعقولنا. صبرنا كثيراً وضحينا كثيراً وقوبلنا بالإهمال وعدم المبالاة وأصبحنا مادة إخبارية روتينية لا تثير أحداً ، وضاع ملفنا بين الملفات التي تستجد في كل حين. ودفنت جراحنا بالجفاء العربي والتآمرالدولي الذي يحركه الصهاينة بحرية كيفما شاءوا ، وندفع فواتير الملفات المستجدة في المنطقة العربية والاسلامية من دمائنا ودموعنا. منذ سبعين عاماً لم نهدأ باستراحة المحارب والتقاط الأنفاس ، ونحن موزعون بين الشهادة والأسر والإبعاد والإغتراب ونعاني من جراحات كل هذه الجهات بالإضافة الى ظلم الأقارب والتمييز العنصري في المخيمات والشتات وداخل الوطن. نحن بحاجة الى مراجعة شاملة فلسطينية وعربية بشأن فلسطين وقضيتها المزمنة والى اعادة النظر في اسلوب نضالنا المقاوم على المسارين العسكري والسياسي. - مفتاح 10/8/2006 -