بول أستريشر مواطن بريطاني نصفه مسيحي ونصفه الآخر يهودي، بسبب الزواج المختلط بين والديه ذوي الأصل الألماني. وهو اختار الانحياز إلى الشطر المسيحي في جيناته وأصبح عضواً في كنسية انجلترا، ثم قسيساً في جامعة ساسكس.

بيد أن هذا الانحياز للمسيحية لم ينسه جذوره اليهودية التي وصلت إليه من أمه، فبقي على صلة بالجاليات اليهودية وعلى تعاطف مع “إسرائيل”. لكنه في الآونة الأخيرة وصل إلى مفترق طرق في علاقاته مع هذه الأخيرة، حين بدأ يطرح أسئلة من نوع: هل الصهيونية المطبقة حالياً في “إسرائيل”، يمكن أن تكفل ل “الإسرائيليين”، ومعهم اليهود، الأمن والسلام؟ وهل يمكن أن يحدث ذلك، فيما مليار مسلم يكرهون “اسرائيل”؟ ثم (وهنا الأهم): هل يهود “إسرائيل” قادرون على الانتقال من التطرف إلى الاعتدال في علاقاتهم مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين؟

استريشر لم يقدم إجابات محددة في الدراسة التي نشرتها له “الغارديان”. كل ما كان في جعبته هو الأمل في أن تتمكن القلة “الإسرائيلية” الضئيلة التي ترفض سياسات تل أبيب الراهنة، من الصمود في وجه أمواج الكراهية والعنف التي تطلقها النسخة الحالية من الصهيونية.

هل أمل هذا القسيس المفكر في محله؟. ربما، إذا ما كان لإبليس أمل ما في الجنة.

فالمعطيات المتدفقة من “إسرائيل” هذه الأيام تشير، على العكس، إلى أن التطرف يتفاقم يوماً بعد يوم بدل أن يتراجع في الدولة العبرية. وعلى سبيل المثال، كشف استطلاع للرأي أجرته جامعة حيفا قبل فترة أن غالبية الرأي العام اليهودي (،7 63 في المائة)، تريد من حكومتها تشجيع “العرب الإسرائيليين” (فلسطينيو 48) على مغادرة “إسرائيل”. والمغادرة هنا تعبير ملطّف عن الشعار الأكثر شهرة هذه الايام في الدولة العبرية: “الترانسفير”. كما أشار الاستطلاع نفسه الى أن ربع سكان “إسرائيل” قد يصوت لمصلحة أحزاب مثل “كاتش” التي ترفع لواء الترانسفير، إذا ما جرت الانتخابات اليوم.

هذه الأرقام المتطرفة ترعرعت في حضن تطورين آخرين أكثر تطرفاً:

الأول، الدلائل على أن اليمين المتطرف الأكثر عنصرية، بات يستقطب نحو 50 في المائة من يهود “إسرائيل”، فيما اليسار الأقل عنصرية (بما في ذلك حزب العمال) لا يحوز سوى على 20 في المائة. أما النسبة الباقية فتعتبر نفسها في الوسط (بين ماذا وماذا؟).

والثاني، أن الممارسات العنصرية ضد عرب ،1948 كما أوضح تقرير مركز “موساوا” “الإسرائيلي”، إزدادت الى حد كبير خلال السنتين الماضيتين. وهذا شمل العنف وخطب الكراهية العنصرية، والعداء، والتحريض والتمييز، وصولاً الى عمليات القتل التي يقوم بها مواطنون “إسرائيليون” ضد المواطنين العرب، بحماية قوات الأمن “الإسرائيلية”.

وإلى هذه التقارير “العقلانية” حول توجهات يهود “إسرائيل” هناك المعلومات “المجنونة”، حيث تؤكد أجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” أن هناك نحو 200 يهودي متطرف جاهزون دوماً لشن هجمات كاسحة على المسجد الأقصى لتدميره إما بالطائرات أو السيارات المفخخة، وأن ثمة متطرفين “متجولين” آخرين ينتظرون الفرصة السانحة لشن غارات جوية مدمّرة على مكة المكرمة.

من أين تأتي كل غرائز العنف والتطرف هذه المنفلتة من عقالها في “إسرائيل”؟ وهل الصهيونية وحدها هي المسؤولة عن هذه الظاهرة المدمّرة؟ - الخليج الاماراتية 25/2/2006 -