استطاع الفلسطينيون، في عملية غزة، توجيه ضربة قاسية لإسرائيل، نالت من آلتها العسكرية التي تتباهى بها، ومن روح الغطرسة لديها، وشكلت ردّا على قتلها الأطفال والآمنين. لكن المبالغة في هذا الإنجاز يعني تضييعه، فإن كان هدف العملية أسر جندي إسرائيلي، فسنكون أمام سابقة فريدة من نوعها، حيث يقوم أسرى (وهو وضع فلسطينيي الأراضي المحتلة) بأخذ أسير من معسكر آسريهم، دون التمعّن في عواقب ذلك عليهم! أما إن كان الهدف شنّ حرب من قطاع غزة لتحرير الضفة (أو فلسطين)، في ظل موازين القوى والمعطيات الدولية والإقليمية والإسرائيلية السائدة، فلا أحد يمكن أن يعرف إلى أين يمكن أن نذهب من هنا!
منذ الانسحاب من قطاع غزة تصرف الفلسطينيون، على الأغلب، على أساس أنهم حققوا هزيمة لإسرائيل، وأنهم باتوا في منطقة محررة، وفي دولة ذات سيادة. وفي ظل المنافسات والمزايدات الفصائلية، والجوع لتحقيق نصر ما (بمعزل عن التباساته واشكالياته وتداعياته)، باتت الفصائل العسكرية (مع التحفظ على هذا المصطلح)، وكأنها تعد العدة لاستعادة التجربة اللبنانية، أو لجعل القطاع بمثابة "هانوي" فلسطين، أو بمثابة فيتنام الشمالية، في واقع دولي وإقليمي لا يسمح بهذه التجربة أو تلك، عدا عن استحالة تشبيه الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بأية تجربة أخرى، بحكم تعقيداتها ومداخلاته الخاصة.
هكذا فبدلا من الالتفات لتصليب مرتكزات الكيان الفلسطيني في القطاع، باعتباره منجزا وطنيا، وتعبيرا عن الحضور السياسي لشعب فلسطين، وشكلا من أشكال مقاومته للمشروع الصهيوني، بدا القطاع مسرحا للفوضى والعبث والمزايدات، وبدلا من النهوض بالقطاع الزراعي، مثلا، لتحقيق الاكتفاء الذاتي في القوت اليومي، على الأقل، تحولت مساحات القطاع إلى مناطق للاستعراضات والتدريبات العسكرية، وبدلا من التعويض على الشباب عن سنوات الانقطاع عن الدراسة، في المدارس والجامعات، باتت الجماعات العسكرية المنفلتة من عقالها تستقطب الشباب، خصوصا في ظل التجاذب والاحتقان بين حركتي فتح وحماس.
لم تقف الأوضاع في القطاع عند هذا الحد، فدائما ثمة مبالغات مضرة في الساحة الفلسطينية، فبدفع من التصورات المضللة والإرادوية السابقة، عن تحرير القطاع والسيادة فيه وهزيمة إسرائيل، اشتعلت حرب الصواريخ، أكثر من السابق، سواء بدعوى الرد على استدراجات أو اعتداءات إسرائيل المعهودة، والمتوقعة، أو في سياق الضغط على إسرائيل، باعتبار الصواريخ شكلا من أشكال المقاومة. وبديهي أن حرب الصواريخ، بكل ما فيها من مبالغة وهشاشة (في آن)، خلقت إيحاءات مضللة في العالم أيضا، فمعنى هذه الحرب وجود كيان فلسطيني مستقل، ومعنى القدرة على تصنيع الصواريخ وجود منطقة محررة، ومعنى إطلاقها أنه ثمة تكافؤ بين طرفين متقاتلين، في انتهاج هذه الحرب وفي تحمّل كلفتها! وهي جميعها اعتبارات تشوش على القضية التحررية للشعب الفلسطيني في العالم.
هكذا فإن مشكلة الفلسطينيين أنهم تبنّوا ادّعاءات هم بحاجة لها للمباهاة ولرفع المعنويات فقط، ولكنهم لم يتوقّفوا عندها بل وباتوا يتصرفون على أساسها.
ومن دون التقليل من فعل الانتفاضة الشعبية والمقاومة المسلحة، اللتان رفعتا ثمن الاحتلال، وعززتا النقاش بين الإسرائيليين، بشأن جدوى الاحتلال والاستيطان والسيطرة على شعب أخر في الأراضي المحتلة، فإن مصالح إسرائيل هي التي حسمت هذا النقاش، لصالح الانسحاب الأحادي المحدود والمشروط. وإذا كان الانسحاب من غزة يمكن أن يحتسب بمثابة هزيمة لإسرائيل، بمعنى ما، فإن التدقيق في معانيه الإسرائيلية الاستراتيجية، يمكن أن يكبح جماح أي شعور بالنصر عند الفلسطينيين. والواقع فإن إسرائيل انسحبت من مجرد 1 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية (360 كم2)، ومن 6 بالمئة من مساحة الأراضي المحتلة عام 1967، وتخلصت من عبء السيطرة على 1.5 مليون فلسطيني، في منطقة تعتبر من أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان، وتفتقر للموارد الطبيعية. الأهم من ذلك أن إسرائيل تخلصت في انسحابها هذا من عبء غزة، الديمغرافي والسياسي والأمني والاقتصادي والأخلاقي، ورمت للعالم مبادرة مراوغة تحسّن فيها مكانتها وصورتها، وتساهم من خلالها في حماية طابعها كدولة يهودية.
على ذلك فقد انسحبت إسرائيل، من قطاع غزة، بسبب مصالحها أساسا، وبسبب صمود الشعب الفلسطيني، وممانعته الاحتلال والاستيطان، بوسائله العادية الشعبية، وليس بالضبط تحت ضغط عملية تحريرية مسلحة. فالمقاومة أشمل وأوسع وأعمق من مجموع عمليات عسكرية، وهي نتاج فعل كتل شعبية واسعة، أكثر بكثير من كونها نتاج مجموعة من المحترفين العسكريين. ولعل الإحصاءات تؤكد على هذه الحقيقة، فقد سقط في قطاع غزة، منذ احتلاله في حزيران (1967) 230 إسرائيليا، بين مستوطنين وجنود، منهم في السنوات الخمس من المواجهات (الانتفاضة الثانية) قتل 124 إسرائيليا، من أصل 1000 إسرائيلي لقوا مصرعهم خلال هذه الفترة. وفقط سبعة إسرائيليين لقوا مصرعهم في هذه الفترة، بنتيجة إطلاق الفلسطينيين لأكثر من 500 صاروخ على المدن الإسرائيلية المتاخمة لغزة. (هآرتس 23/8/2005). ويستنتج من ذلك أن الخسائر البشرية الإسرائيلية ليست لوحدها التي حفزت على الانسحاب، كما قدمنا، إذ أن مقتل 230 إسرائيليا في القطاع، خلال ما يقارب أربعة عقود من الزمن لا يشكل ثمنا أو دافعا معقولا لوحده للانسحاب. ثم إذا كان الأمر يحتسب بالخسائر البشرية، لكان الأولى بالنسبة لإسرائيل الانسحاب من الضفة، التي خسرت فيها حوالي 900 من الإسرائيليين خلال فترة الانتفاضة، مقابل 124 فقط في قطاع غزة.
ناحية أخرى يبدو أنها تغيب في ظل المبالغات الفلسطينية، وهي أنه ثمة نوع من مخاتلة في موضوع الانسحاب من قطاع غزة، ذلك أن إسرائيل مازالت تسيطر في ذلك القطاع على مختلف أنشطة الحياة فيه، من الماء إلى الكهرباء إلى الطحين إلى المحروقات، وهي أحاطت بالقطاع من كل حدب وصوب، من البر والبحر والجو، وفرضت طوقا من الحصار عليها، من دون أن تترك للفلسطينيين حق الاعتراض أو حق تقرير مصيرهم في القطاع، فهي التي حددت المعابر والمداخل والمخارج، وكمية التموين ونوعيته، وقنوات التمويل وأغراضه، ونمط العلاقات مع العالم الخارجي، واحتفظت بحقها في "تأديب" القطاع، بما في ذلك حق اقتحامه أو اجتياحه متى شاءت، ومتى وجدت الفرصة سانحة لذلك!
على ضوء ما يجري، وطالما أن الشعب الفلسطيني هو الذي يدفع كشف الحساب من معاناته وتضحياته وعذاباته، من المهم لفت الانتباه هنا إلى أن حرب الشعب أو حرب الغوار أو المقاومة ليست مجرد عمليات عسكرية، وأن المقاومة المسلحة ينبغي أن تخضع، أيضا، لاعتبارات سياسية ولحسابات جدوى مدروسة، أهمها قدرة الشعب على التحمل، وتعزيز الشرخ في معسكر العدو، وتجنّب الدخول معه في حرب متكافئة، واعتماد استراتيجية الصراع بالنقاط في حرب طويلة الأمد. لذا وحتى لا تبقى الأمور في باب المزاجية والفوضى والمزايدة، فإن أصحاب نظرية الردع واستخدام الصواريخ وتحويل غزة إلى قاعدة للتحرير، مطالبين بتقديم كشف حساب لشعبهم عن نظرياتهم أو عن استراتيجياتهم العسكرية. - مفتاح 7/10/2006 -