كما لم يكن في أي وقتٍ مضى, فإن شلال الدم المسفوح في غزة, بفعل اقتتال ذوي القربى, لا يدع مجالاً للمكابرة, و القول ادعاءً أن الاحتلال وحده سبب كل المأساة و مسببها, فبعد أن اتسع الرقع على الراقع, ما عاد من اللائق مجاراة أنفة النفس و عزوفها عن الاعتراف بالخطأ, أو الهروب عن تحمل المسؤولية الأخلاقية, بالتصريح اعترافاً؛ أن العنجهية و الحماقة تسيران بنا إلى مقامرة بالمصير و بكل معاني الشرف و النضال, و أن بعضنا يجرنا إلى أسفل سافلين, بجهل و عنترية, ليجعل من أجسادنا حطباً لنار الفتنة, دون أن يوضح أحد المتخاصمين لمصلحة مَنْ غير الاحتلال يقتتل بنو الثورة ؟
فبقدر ما يمعن المحتلون في القتل و التدمير و الحصار و التجويع, وصولاً إلى تركيع الشعب الفلسطيني, ليقبل بالأمر الواقع وفقا للرؤية الإسرائيلية, القائمة على نفي الآخر و تأكيد عدم وجود الشريك, فإن الحال المستوجب على الفلسطينيين هو تمكين جبهتهم الداخلية, و تعميق أسس التفاهم و الحوار, و البحث عن المزيد من القواسم المشتركة, و نقاط التلاقي و التوحد, قبل الانطلاق نحو تحقيق الحلم الوطني كمسؤولية جماعية, إلا أن ما هو قائم يقتل الحلم و يفتح الآفاق نحو نوبات قاتلة من التردد و التقهقر, و التكسر و التبعثر و الانحطاط, لغير صالح الوطن أو المواطن, فيما المستفيد الأول هو إسرائيل, التي صرنا نشتهي ضرباتها و ملاطفاتها الحربية المعتادة لنا بكل آلات الآه و الألم,البرية منها و البحرية و الجوية, لعلها تسعفنا من حالات التناحر و التباري المخزي, إذا ما أيقظت بعدوانها ضمائر المقتتلين النائمة عن حقيقة نزيف الوطن, و وحدانية المصير و الجرح المشترك, فلا يكون لشياطين الإنس و الجان, فرجات بين الصف الفلسطيني, المنشق على نفسه, انقلاباً على كل القيم. إن أحداً لا يفهم ما يجري على الأرض ذهولاً و اندهاشاً, فما يحتدم من صراع بين الأخوة في قطاع غزة, أكبر من أن يستوعبه عقل أو يبرره منطق, و أسوأ من أن يُفسر أو يُعلل بحجةٍ تدين هذا أو ذاك, لأن ما يحصل هو اختصار للفضيحة و الهوان, التي تسيء إلى المجموع الفلسطيني ككل, و تفتح الباب للمزيد من الأزمات و الكوارث, التي ستنتهي بشعبنا إلى نكبةٍ لا يستطيع أحد احتمالها, وقائعاً و نتائجاً, فيما توقع أحداث الفتنة الدائرة الآن صكاً ببراءة المحتلين من دمائنا, إذا ما تاه الحق و صار الوطن الفلسطيني لا يعرف من هم جلاديه, أو يميز بين القتلة الذين سيكون الاحتلال أكثرهم رحمة .
إنها قبلية الفصائل, التي تشدنا إلى جاهلية نتنة, لا نعرف أية رسالة سامية ستأتي بعدها لتزيلها, كما لا نعرف إلى أين سيصل بنا هذا الجنون الجامح إلى تأسيس مأساة أخرى, لا نعرف أين أو متى أو كيف ستنتهي؟ فيما ندرك أننا سائرون بفعل خطيئات المتعملقين الجدد إلى المجهول الأسود, ليدفع الشعب الفلسطيني المعذب الثمن في نهاية المطاف أو ما قبلها باهظاً, و يجني الاحتلال ما لم يستطع حصاده, على مر سنين المواجهة التي كان يزرع فيها الموت و الخراب و التدمير, دون أن نركع .
لا نبالغ إذا ما قلنا, أننا نشعر بمرارة الوجع الناتج عن هذا النزف, كلما فتح بعضنا جرحاً جديداً, في جسد هذا الوطن, فيما ننغمس بالأسى بقدر ما ينغمس فينا, إذا ما نكأ العابثون الجرح نفسه, و أعادوا إنتاج الألم المعجون بالدم الفضيحة؛ المسكوب على الأرض باستمالة الغواية الشيطانية, دون أن يكون هناك رابح على امتداد المدى الفلسطيني, زماناً و مكاناً, إلا أن الكل جاني للخسران, الذي سيضاف إلى سجل الهزائم التي تحفظها الذاكرة, و شتان ما بين هزيمة لا ننساها لتذكرنا بحق ضائع و شعب صامد, و أخرى سنتمنى أن يسقطها الزمان في غفلة منا, كي لا تكون عنوانا لحقبة تخجل منها الأجيال القادمة.
لسنا بصدد توزيع الاتهامات لأحد من المختلفين, أو البحث عن رؤوس الفتنة و أسنانها, لأننا في محيط الحدث اليومي منفتحون على المسرح تماماً, فلا نسعى لحل أُحجية ما, و لا مجال للتشكيك في وطنية أحد دون آخر, و لكننا نقول أن هذا العبث يجب أن ينتهي قبل أن تنتهي قضيتنا, و نحن لا نرى بفعل الغشاوة التي أعمت البصائر قبل الأبصار, فالوطن فوق الجميع, من فصائل و تنظيمات و قوى خاصة و أشخاص و أجندات مستوردة, و هو بحاجة إلى كل أبنائه أكثر من أي زمنٍ مضى ,لأن الوقت لا يحتمل المزيد من الهدر و التضييع على حساب قضايا مفصلية, كما أن التاريخ لن ينحاز في غدٍ قريب ٍ أو بعيد, لجماعة أو حركة متورطة في حمام الدم هذا و يجرم غيرها, فالحاصل مهزلة دموية يقودها إذا ما استمرت مجانين, لأنها ستنتقل لا سمح الله من القطاع المكلوم إلى الضفة الغربية, و هو ما حصل فعلا, ليطال شرر الفتنة كل الوطن المكتوي بأكثر من نارٍ حارقة .
لقد آن للجماهير الفلسطينية أن تقف موقفها الوطني المطلوب, واجباً و تفضلاً, و أن تجاهر في وجه كل أولئك المقامرين بمصائرنا, بأقوى كلمة "لا", بعد أن تتحلل من حالة الذهول و الصدمة التي أحبطتنا جميعا, لأن الوقت لا ينتظر, و الساحة الداخلية في غنى عن أي انشقاق, لأننا بحاجة عملية ماسة إلى اتفاق, يمكننا من اختراع كافة وسائل العيش و الحياة, في مواجهة كل آلات القتل و الموت الإسرائيلية .