المتابع لمجريات الأحداث في الأراضي الفلسطينية المحتلة وبالأخص تلك التي استجدت بعد انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني التي جرت في 25 كانون الثاني الماضي لا يحتاج إلى كثير جهدٍ أو عناء تعبٍ ليدرك أن الإدارة الأميركية قد شرعت فعلياً في شن حرب التجويع التي أعلنتها ضد الشعب الفلسطيني ، "مكافأة" له على ممارسة حقه في اختيار ممثليه في المجلس التشريعي وتغيير سلطته الوطنية عن طريق انتخابات ديمقراطية، شهد العالم من أقصاه إلى أدناه بشفافيتها ونزاهتها!
وهذه الإدارة التي أعماها انحيازها المفرط للكيان الصهيوني عن رؤية الحقائق وأوقعها صلفها وغرورها بعد 11 أيلول 2001 في مسلسل خطير من الأخطاء والمغالطات، تشن هذه الحرب الجائرة وغير المبررة ضد الشعب الفلسطيني نيابة عن هذا الكيان المجرم وقادته الضالعين بكل أصناف الإرهاب والجريمة والممارسات اللاإنسانية واللاأخلاقية.
إن جميع المواقف الرسمية التي خرجت من واشنطن قبل وبعد إعلان فوز حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الكاسح في الإنتخابات التشريعية والمستمرة حتى الآن تدلل على أن إدارة المحافظين الجدد بزعامة الرئيس جورج بوش مصممة على معاقبة الشعب الفلسطيني من خلال وقف المعونات الإقتصادية والمالية عنه، ما لم تبادر "حماس" إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني والتخلي عن المقاومة المسلحة والقبول باتفاقات أوسلو وخطة خارطة الطريق . وهذا يعني بصريح العبارة أنها تريد بذلك إحكام الطوق الإقتصادي الصارم حول أمعاء الشعب الفلسطيني وتجويعه أملاً في تركيعه، وذلك في سياق تناغمٍ وتطابقٍ مع استراتيجية حكام تل أبيب التي استهلوها بالمصادقة على حجز 50 مليون دولار شهرياً تمثل مستحقاته من الجمارك وعوائد الضرائب.
لعل هذه هي شروط الديمقراطية الأميركية "الجديدة!!" التي على "حماس" القبول بها بعد أن انتقلت من المعارضة إلى السلطة، وإلا فعليها أن تدير ظهرها للخيار الديمقراطي الفلسطيني، باعتبار أنه الخيار الذي يتصادم مع المصالح الأميركية – الصهيونية المشتركة في منطقة الشرق الأوسط وبالأخص في الوطن العربي . وبمعنى آخر يمكن القول أن إدارة المحافظين الجدد في واشنطن مصممة على تجويع الشعب الفلسطيني أكثر مما هو جائع، ما لم تخضع الحركة لشروط الديمقراطية الأميركية هذه أو تتخلى طوعاً عن استحقاقات الديمقراطية الفلسطينية . إنها حرب تجويع حقيقية ومفتوحة تتقاسم كل من واشنطن وتل أبيب "أدوار البطولة" فيها بذريعة معاقبة "حماس" . إنه حكم القوي على الضعيف... لا إنه حكم المفتري "الأعظم" في زمن شريعة الغاب ودبلوماسية البوارج والقاذفات الصاروخية!!
فهذه الإدارة الأكثر رعونة في تاريخ الولايات المتحدة تصر على ربط أي اعتراف دولي بحكومة فلسطينية مقبلة تشكلها حركة "حماس" أو تكون شريكاً رئيسياً فيها بالشروط سالفة الذكر . هكذا من منطلق "تأبط شراً" ودون ما مبادرة من قبلها تحيي آمال الفلسطينيين بقرب حل قضيتهم أو حتى إبداء التزام بمضمون قرارات الشرعية الدولية وشرعة حقوق الإنسان، الأمر الذي يعني أن هذه الإدارة تحاول من خلال طرح شروطها الجائرة والمجحفة ممارسة ابتزاز سياسي مفضوح ووقح على الحركة لإخضاعها وإذعانها للإرادة الأميركية ـ الإسرائيلية المشتركة . وهي من أجل هذه الغاية، استنفرت العالم وبالأخص مجلس الأمن واللجنة الرباعية والإتحاد الأوروبي، وفرضت على من استطاعت من الدول اتخاذ مواقف متناسقة ومتناغمة مع موقفها المتطابق مع موقف تل أبيب لجهة مطالبة حكومة "حماس" بالالتزام بـ"السلام والتخلي عن السلاح والاعتراف بالكيان الصهيوني"!!
ومن أجل هذه الغاية أيضاً، أوكلت إلى وكيلة وزارة خارجيتها للدبلوماسية العامة كارين هيوز التي كانت تشارك في مؤتمر انعقد في مدينة الدوحة القطرية بخصوص الحوار الإسلامي ـ الأميركي مهمة إقناع الدول المشاركة في المؤتمر بممارسة أقصى الضغوط الممكنة على "حماس" لثنيها عن ثوابتها . وجاءت زيارة وزيرة الخارجية كونداليزا رايس لأربع من العواصم العربية الفاعلة والهامة لخدمة ذات الغرض، إذ ركزت على "أزمة الأزمات !" التي شكلها وصول "حماس" إلى السلطة الفلسطينية، إلى جانب تطورات الأوضاع في كل من سوريا ولبنان وإيران وانعكاساتها على المخططات الأميركية ـ الإسرائيلية المشتركة المرسومة لمنطقة الشرق الأوسط، بما فيها الوطن العربي بالطبع.
وفي عملية التفاف كانت الغاية من ورائها وضع العصي في دواليب اندفاعة الديمقراطية الفلسطينية، استبقت إدارة المحافظين الجدد التي اقتصر اهتمامها بعد زلزال 11 أيلول 2001 على تحقيق أمن الكيان الصهيوني وخدمة مصالحه انعقاد الجلسة الأولى للمجلس التشريعي الفلسطيني الجديد وتكليف إسماعيل هنية تشكيل الحكومة الجديدة بالإيعاز لمجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين "الكونغرس" لصياغة وتبني مشروع قانون تُعلق بموجبه المعونات الأميركية المقررة للسلطة الفلسطينية باعتبار أنها "أصبحت في ظل سيادة حماس كياناً إرهابياً"، على حد زعم هذه الإدارة.
وبالفعل كان للإدارة ما أردت، فتمت صياغة مشروع القانون "المُبتغى" في الثاني من الشهر الماضي، وتمت المصادقة علية بأغلبية أصوات مجلسي الشيوخ والنواب "الكونغرس" في أواسط ذات الشهر . وقد تبع ذلك مطالبة الرئيس جورج بوش السلطة الفلسطينية بإعادة مبلغ 50 مليون دولار كانت إدارته قد قدمتها لها في إطار المعونات الأميركية المقررة للشعب الفلسطيني . وبالرغم من أن ذلك الطلب افتقر إلى ما يبرره قانونياً ومنطقياً وجاء في وقت تعاني فيه مؤسسات السلطة من مصاعب مالية حرجة، إلا أن العزة والكرامة افترضتا موافقة الرئيس محمود عباس عليه فوراً.
مشروع القانون الظالم هذا، الذي تحول بعد المصادقة عليه إلى "تشريع غير ملزم"، لم يكتف بالدعوة لحجب المعونات المباشرة عن السلطة الفلسطينية فحسب، وإنما تجاوز ذلك إلى الدعوة لتقييد المعونات الإنسانية التي تقدمها منظمات غير حكومية إلى الفلسطينيين . وعلى الصعيد الدبلوماسي، دعا المشروع إلى قطع الروابط الدبلوماسية مع السلطة ومعاملتها باعتبارها"كياناً إرهابياً"، كما دعا إلى إغلاق مكاتبها في الولايات المتحدة باستثناء مكتب ممثلها لدى الأمم المتحدة، وتقييد سفر ممثليها، واشترط اعتراف حركة "حماس" بحق الكيان الصهيوني في الوجود ونبذ العنف والتخلي عن سلاحها لاستئناف المعونات والعلاقات الدبلوماسية من جديد.
لكن وبسبب افتقاره للشروط الإلزامية وعلى ضوء تمسك حركة "حماس" بثوابتها السياسية، يسعى الآن عدد من أعضاء مجلس النواب يتقدمهم النائب الجمهوري وزعيم الأغلبية في المجلس جون بويهنر إلى إصدار مشروع قانون ملزم لوقف المعونات وربطها ب "انصياع حماس للإرادة الدولية"،حسبما يرى المتبنون لسياسات الكيان الصهيوني في مجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين "الكونغرس".
تحرك إدارة المحافظين الجدد هذا الذي ما يزال في بداياته يأتي في سياق خطة أميركية ـ إسرائيلية تم الكشف عنها في واشنطن قبل بضعة أيام فقط . وقد وقفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية وراء ذلك الكشف بقولها : "أن الولايات المتحدة وإسرائيل ستسعيان بشكل حثيث إلى حرمان السلطة الفلسطينية من الأموال والإتصالات الدولية بما يُصعب الحياة على الفلسطينيين ويفرض عليهم التخلي عن دعم وتأييد حركة حماس والعودة لدعم وتأييد حركة فتح من جديد " .
هنا أتوقف لأعود وأطرح ما سبق أن طرحته في رأي سابق : ترى في حال أظهرت حركة "حماس" نوعاً من المرونة تجاه الشروط والمطالب الدولية التي هي بالأصل أميركية ـ صهيونية جائرة وخارجة عن حدود السلطات الممنوحة للمجتمع الدولي بما فيه الولايات المتحدة وذلك لسحب البساط من تحت أقدام خصومها الإقليميين والدوليين، هل تضمن إدارة المحافظين الجدد في واشنطن بزعامة الرئيس جورج بوش أن يعترف الكيان الصهيوني بالحكومة الفلسطينية المقبلة وسلطتها، وهل تضمن هذه الإدارة أن لا يستأنف جنوده عمليات قتل واغتيال جديدة لقادة وكوادر حركة "حماس" في المستقبل وأن يجنح للسلام مع الفلسطينيين بحيث تنبعث الآمال مرة أخرى باحتمال ولادة دولة فلسطينية مستقلة تكون القدس الشريف عاصمة لها؟! - التجديد العربي 6/3/2006 -