لم يسبق لازمتنا أن تجلت بهذا الصخب مما حدث في أريحا يوم محاصرة السجن والتنكيل به وبمن احتواه من سجناء وسجانين، الا ربما يوم محاصرة مقاطعة رام الله واجبار رئيسها على توقيع اتفاق تحول فيه الضيوف المحميين ليكونوا السجناء اياهم في حادثة أريحا. وذلك باستثناء اننا كابرنا في تلك اللحظة فلم نلحظ ما في أزمتنا من صخب يستوجب التوقف والهتاف بمن ينقذ الوطن!

في أريحا اختزلت مفارقات أزمتنا: أريحا التي يفترض بها حسب اتفاق غزة - أريحا أولا أن تكون أول المناطق التي تنسحب منها اسرائيل - وليس تعيد انتشارها مثلما في باقي المدن في اوسلو ب - تمهيدا لسيادة لاحقة مع انتهاء المرحلة الانتقالية، باتت أريحا السائبة أمام البطش والتنكيل والإهانة أمام عدسات التلفزيون وناظر الناس في كل العالم.

في نفس الوقت الذي تكون لنا فيها رئاسة، وحكومة، وبرلمان، فان إسرائيل تعبث في الوطن كما تشاء دون اعتبار لاي كيان سياسي مزعوم أو أي اتفاق سابق ذي قيمة.

لا نريد هنا أن ننغص على أحد فرحته أونقلل لأحد مكانته. فكرامة الرئيس محفوظة لدى شعبه وكذا فرحة حماس في تشكيل حكومتها هي الاخرى ذات كرامة محفوظة. ولكن المفارقة هي أن لا الرئاسة ولا الحكومة في ظل سطوة القوي العايب وجبروته بقادر على أن يحفظ كرامة الوطن وحريته.

ثمة من هيجه الغضب حتى بات يسعى للهرب الى الوراء مطالبا بحل السلطة، وآخر للهرب الى الامام وكأن في الحكومة القادمة يكمن الخلاص.

ولكن للأسف، ليس في حل السلطة ما يُنبىء بأي خير. فعجلات الحياة لا تعود الى الوراء. وبعد أن كانت السلطة خطوة نحو حمل شعبنا مصيره في يديه، ليس البديل في التخلي عن هذه المسؤولية واحالتها الى من لا يرحم، أفضلهم "الأسرة الدولية" التي رأيناها في إحدى افضل صورها عندما نكثت قيادتها، الأمريكية والبريطانية، عهدها ونقضت اتفاقها في أريحا.

أما في تشكيل الحكومة في ظل قيادة حماس التي ترغب في تغيير قواعد اللعب وتطالبنا محقة في أن نصبر على أن يتسنى لها ذلك، فليس في ذلك ما ينقذنا مما يتربص بنا من مصائر، على الأقل في المدى المنظور وربما المتوسط، ولا نريد المغامرة بأي مدى أبعد من ذلك.

حتى قبل أن تتشكل حكومة حماس، هجم العالم بأسره للضغط عليها بهدف ترويضها في أفضل الاحوال او سحقها وافشالها في اسوأه. وإن كنا لا نضحي بمن اخترناه، بأغلبية ساحقة، قائدا لنا، وإن كنا نستعد للفداء في سبيل خيارنا، فإننا لا نوهم أنفسنا في ظل جبروت القوي بنصر قريب. كما أننا لا نغش أنفسنا فلا نرى أنه ليس في الافق غير الخطة المبيتة لتمزيق أواصر وطننا وتحويله الى جيوب متفرقة سرعان ما يسود في كل منها عصابته ولا سيما اذا ما بلغ بنا الغضب حد الغاء السلطة التي بقيت هي آخر معقل سياسي يجمع فُتات هذا الوطن في وحدة سياسية واحدة رغم ما فيها من تمزق لا نُحسد عليه.

مشكلتنا فيما نعيش من واقع هي كثرة ما فيه من مفارقات. لايام لم يوقفها سوى مهانة أريحا بقينا في جدال معمق وعنيد حول صحة أو عدمه ما اتخذه مجلس حماس المنتخب من الغاء لقرار مجلس فتح الذي كان منتخبا هو الآخر. وفي جدالات لتشكيل حكومة نتماحك حول خطوطها الرئيسة فنتجاذب الشد كل باتجاه برنامج ليس لدى أحد منا ما يؤهله على أن يحققه. فبينما تشد حماس نحو غموض سياسي يرفع بسقف المطالب الوطنية الى طموح لا أمل في تحقيقه، فان فتح تشدها نحو واقعية سبق أن فشلت. وبدلا من تضييق مساحات الخلاف للتفكير في استراتيجية قابلة للتحقق تحمي الوطن من تكرار تجربة فاشلة بقدر ما تحميه من طموح لا تطاله أيدينا، فإننا نتمسك كل برؤياه.

وبينما نتلهى بجدالات عقيمة، في التشريعي وخارجه، في المشاورات لتشكيل الحكومة وخارجها، فان رسالة اسرائيل الينا انكم جميعا غير ذي صلة، حكومتكم هي حكومة حماس "الارهابية"، ورئاستكم لم تعد شريكا قادرا على الايفاء بما تتطلبه الاتفاقات معه، ولم يتبقَ لنا سوى أن نأخذ مصيرنا نحن في أيدينا ونقرر أين مصالحنا فنرسم حدودنا ونحقق أهدافنا.

السؤال الكبير أمامنا جميعا هو كيف سنواجه الاستراتيجية احادية الجانب التي تتبناها اسرائيل وتجد دعما لها في العالم في ظل رئاسة عاجزة وحكومة معاندة.

معاذ الله أن أدعي معرفة الجواب. فهذه ما كانت بأزمة لو كنت وأمثالي نعرف أين منها الخلاص. ومع ذلك فلولا معرفتي باستحالة قبول حماس ما سأوصي به من حيلة لقلته على الملأ بصوت جهير.

إفتراضا فقط، ومع علمي الأكيد بأنه لا اُفق للمفاوضات، فاني أدعو حماس الى أن تورد في برنامجها السياسي على الصعيد الخارجي عبارة واحدة فقط: مستعدون لكل مفاوضات دون شروط مسبقة.

في الاستعداد للمفاوضات التي لن تأتي بالتأكيد لإصرار اسرائيل على خطاها احادية الجانب حرج للعالم ولاسرائيل وتفادٍ للشروط المتشددة التي يطرحها العالم على حماس. فمن يستعد للمفاوضات يفترض به أن يكون يعترف بحكم الأمر الواقع بمن يفاوضه، ويقر له ولكل وسيط محتمل بأن النتيجة ستكون في الوسط بين مطالبه ومطالب الطرف الآخر، وفي حالتنا تترجم هذه بمبدأ الدولتين للشعبين في فلسطين الانتدابية.

ولكن حماس لن تأخذ بكلامي وستشكل حكومتها بخطوط سياسية "متشددة"، بإصرار على رفع السقف. وفتح ستُحجم عن المشاركة. والسلطة لن تحل رغم الصخب المشروع لرجالها . ونحن سنواصل حياتنا نجر أقدامنا، مطاطئي الرأس كي لا نرى مشاهد التعري في المقطع السابق أو القادم من شريط أريحا المذل.