تختتم اليوم أعمال القمة العربية الثلاثون منذ أن بدا مسلسل القمم العربية عام 1946 والقمة الحادية والعشرون منذ العام 1964 وهو التاريخ الذي تكرست فيه القمة كلقاء دوري للقادة والزعماء العرب لبحث و تدبير شؤونهم وقضاياهم في عالم مضطرب ومليء بالمتناقضات والانحيازات مابين معسكرين تأثر فيها العالم برمته كنتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية .
وان كان قد غلب عل دعوى مأسسة القمة في لقاءها الدوري دعوة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الأخذ بمبدأ عدم الانحياز. والذي كان هو واحد من ثلاثة أطلقوا هذه الفكرة وسعوا لتحقيقها لتجنيب شعوبهم وبلدانهم ويلات الانحياز والاصطفاف إلى جانب أو خلف احد المعسكرين ، فإن هذه الرغبة الأكيدة والمليئة بالنوايا الحسنة لم تستطع أن تجنب هذه البلدان وشعوبها مما كان يخشى منه، ناهيك أن العالم العربي الذي مزقته هذه الانحيازات والاصطفافات بفعل عوامل كثيرة ومتعددة لم يستطع أن يواجه أيا من الأزمات والمعضلات التي حالت دون تحقيق أهداف تجمعه في إطار الجامعة العربية إلا بمزيد من الاتكال على لغة الخطابة والمزاودة الكلامية ناهيك عن عدم القدرة والرغبة في أحيانا كثيرة على الفعل .
بعيد هزيمة حزيران عام 1967 اجتمع القادة العرب في الخرطوم وكانت مرارة الهزيمة وعمقها قد أخذت مفاعيلها وسيطرت روح الغضب والثأر للهزيمة على قرارات القمة التي خرجت بلاءاتها المعروفة ( لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات ) هذه اللاءات الثلاث حكمت الرؤية العربية للصراع العربي الإسرائيلي بما في ذلك الرؤية للتحالفات على الصعيد الدولي ، وخلقت في الوجدان الشعبي العربي مناخا من الرفض لأية أفكار أو سياسات اتسمت بالواقعية السياسية ، بما في ذلك أي بعد ولو كان تكتيكيا كما حصل مع زعامة عبد الناصر عندما وافق على مبادرة روجرز بعد عامين من قمة اللاءات الثلاث الشهيرة .
وإذا ما كانت مرارة الهزيمة ووجود مناخ دولي موات بانقسام العالم إلى معسكرين والإصرار من قبل القادة العرب الذي ترجم بقراراتهم على مواجهة إسرائيل وتحرير الأراضي المحتلة أو ما سمي حينها محو آثار العدوان .
فإن واقع الحياة والتجربة ليس فقط في الشأن السياسي وفي الجوهر منه الصراع العربي الإسرائيلي ، وإنما في طريقة وأسلوب معالجة القضايا الخلافية العربية العربية قد اثبت وباستمرار عجز المنتظم العربي عن القدرة على الأخذ بزمام المبادرة والمعالجة الجدية لأوضاعه ، ووصل الحال به في بعض القمم بتفويض أطراف أجنبية لمعالجة هذه الشؤون كما هو الحال في( حرب تحرير الكويت) .
قمة الخرطوم الثانية تعقد الآن في مناخات متغيرة فلم يعد العالم منقسم إلى معسكرين إذ تلاشى احدهم وحل مكان الثنائية القطبية عالم أحادي القطبية يعلن انحيازه ووقوفه الجانب الآخر من المصالح العربية وأصبح بذات الوقت هو الخصم والحكم . علاوة على إن غياب القادة الذين ذاقوا مرارة الهزيمة وسعوا لأزالتها ولو على الأقل لفظيا في لغة الخطابة ، فإن حضور الهزيمة وتكريسها بواقع جديد مع ظهور جيل جديد من القادة اتسم بالواقعية السياسية عبر عنها في قمة بيروت عام 2002 بما سمي بمبادرة السلام العربية والتي أعيد التأكيد عليها بقمة الجزائر العام الماضي .
هذه الواقعية السياسية لم تمنع ولم تضع حدا لازدواجية الخطاب والمواقف مابين الغرف المغلقة والمؤتمرات المفتوحة ن مابين صنع السياسية وممارستها ، ومابين السياسة المكشوفة والسياسة التي تحاول استغفال الشعوب بالازدواجية المذكورة .
لم يعد أمام العالم العربي سوى المضي بإنجاز ما تعهد به قادته وهو تعهد تاريخي في قمة تونس ليس فقط بإطلاق إصلاحات شكلية على الصعيد الداخلي وإنما المضي فعليا في طريق الإصلاحات بما في ذلك ضمان الحريات العامة والأساسية واحترام التعددية السياسية وانتقال وتداول السلطة بشكل سلمي وديمقراطي . إن هذه الإصلاحات من شانها أن لا تغلق الأبواب أمام ازدواجية الخطاب بفعل المكاشفة والعلنية وإنما بفعل مفاعيل الديمقراطية التي تعطي ترابطا وثيقا مابين ممارسة السياسة الداخلية والخارجية ، وتعطي جدية أكثر لضمان أن برنامج الواقعية السياسية من الممكن تحويله لأداة كفاحية وخلق مفاعيل قوة له وأدوات ضغط وتأثير لاحترام إرادة وقرار الأمة العربية المعبر عنه بقمتها لأنه منبثق من الشرعية الدولية والقانون الدولي والإنساني .
وإذا ما كانت القضايا السياسية الرئيسة الثلاث المعروضة على القمة (الصراع العربي الإسرائيلي ، والعراق ، ودار فور بالسودان ) هي موضع اتفاق مبدئي وخصوصا فيما يتصل بقضية الصراع العربي الإسرائيلي وخاصة ما بعد المتغير الكبير بالوضع الداخلي الفلسطيني بعد فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الثانية ، من خلال التأكيد على تفعيل مبادرة السلام العربية كأساس ومنطلق لجهد عربي مشترك يقطع الطريق أمام محاولات المزاودة برفض قرارات الشرعيات الثلاث الدولية والعربية والفلسطينية ، وتشجيعها لتصب في صالح اعتبارات صراعات إقليمية محددة ، فإنه بذات الوقت ينبغي أيضا وبنفس القوة عدم ربط مبادرة السلام العربية المختلفة جوهريا وبالمضمون والمنهج مع خطة خارطة الطريق ، وعدم البحث عن قواسم مشتركة بينهما لان من شان ذلك التخلي عن المبادرة العربية التي تحمل توازنا بالاستحقاقات لصالح خطة خارطة الطريق الخالية من هذا التوازن والتي واجهت منذ طرحها الرفض الإسرائيلي المعلل بأربعة عشر تحفظا نسفتها من حيث المضمون والجوهر . كما ينبغي على القمة تأكيد رفضها لمعاقبة الشعب الفلسطيني على خياراته الديمقراطية والاستعداد العملي ليس إلى تحمل أعباء سد النقص في المساعدات الدولية وإنما في ممارسة ضغوط جدية على هذه الدول لاحترام إرادة وتعبير الشعب الفلسطيني .
كما إن تجديد الرفض العربي الرسمي إرسال قوات عربية إلى العراق ردا على مطالب واشنطن وضغوطها أن لا يضع العرب شريكا وغطاء للاحتلال الأمريكي للعراق ويخرجه من مأزقه السياسي وخسائره العسكرية لتحل محله القوات العربية لتواجه الصدمة الداخلية والخارجية ن وخصوصا بعد تصاعد الصدامات المذهبية وتهديدها بالتحول إلى حرب أهلية داخلية تفتح الطريق واسعا أمام تقسيم العراق . والذي يشكل نموذجا لإعادة صياغة الخارطة الجيوسياسية العربية .
إن من شان إطلاق حوار أمريكي- إيراني بشان العراق أن يشعل ضوء احمر أمام القمة العربية لان يكون هناك خيار عربي لمساعدة العراق للخروج من محنته ليس عبر إرسال قوات عسكرية عربية وإنما من خلال تدخل فاعل وجدي مع أطراف المعادلة الداخلية العراقية لتشكيل حكومة وحدة وطنية أولا ولتفتح الطريق لاحقا أمام الحوار مع المقاومة الوطنية العراقية ثانيا لإعادة بناء عراق عربي تعددي ديمقراطي يحافظ على انتمائه وعلى علاقاته العربية والإقليمية والدولية .
إن إطلاق حوار أمريكي- إيراني بشان العراق هو اعتراف من قبل الطرفين بان كل واحد منهم لاعب رئيسي فيه وان تداخل المصالح ارتباطا بقضايا إقليمية أخرى من صراع على النفط إلى التسلح النووي من الممكن إن تجد حلول لها على حساب العراق ووحدته الجيو سياسية .
كما انه يتوقف على القمة معالجة العلاقات الأفريقية العربية من مدخل الصراع الدائر في دار فور وتزايد الضغوط الدولية على السودان لقبول نقل سلطات حفظ السلام في هذا الإقليم الذي تمزقه الصراعات العرقية من سلطة قوات حفظ سلام افريقية الى قوات دولية ، مما يعني فسح المجال أمام تدويل الصراع في المنطقة ويفتح المجال لاحقا لسلخ هذا الإقليم عن السودان أو على الأقل فرض حل على السودان أشبه باتفاق الجنوب يترك الخيار أمام استقلال الإقليم بناء على استفتاء مؤجل .
إن دعم القمة العربية لمسعى السودان للحفاظ على وحدة أراضية وترابه الوطني يجب أن ينطلق من ضرورة إيجاد شراكة عربية افريقية لمعالجة الوضع المتأزم في هذا وإغلاق الأبواب أمام التدخلات الخارجية ، وما لا شاك فيه فإن موقفا مصريا وليبيا قويا قد يسهم في اتخاذ مثل هكذا موقف انطلاقا من الترابط الإقليمي الذي إذا ما قيض لهذا الإقليم من الانفصال عن السودان أن يشجع أطرافا انفصالية في كلا البلدين .
التحديات الكبيرة التي تواجهها قمة الخرطوم الثانية هي بمدى قدرة هذه القمة ليس التأكيد على خيارات سياسية واقعية فحسب في قراراتها وإنما في اتخاذا الوسائل والآليات والإجراءات الكفيلة بتحويل هذه القرارات إلى برامج عمل قابلة للتحقيق حتى تكون هذه القمة فعلا وليس قولا قمة المصالح العربية . - مفتاح 29/3/2006 -