أثارت تعليقاتي الأسبوع الماضي حول مأزق حماس السياسي جدلاً واسعاً فاق ما يثار عادة ـ أو ما يبلغني علي الأقل ـ من الجدل والنقاش حول مقالات أخري. ولكن أهمية الجدل تكمن فيما كشف عنه من أزمة عميقة في التفكير العربي المعاصر تتجاوز موضوع الجدل الأصلي. فقد غلب علي التعليقات ما يشبه الشعور بالفجيعة في آمال يعلقها البعض علي حركة حماس وحكومتها، بأن تكون هي التي ستستعيد فلسطين وتنقذ الأمة، وربما تستعيد الخلافة أيضاً. وإنها لمصيبة أن تتعلق آمال الأمة بأسراها، لأنه ليس هناك عجز أكبر من هذا. فحين تتعلق آمال مليار وربع مليار شخص بالمقيمين في سجن غزة الكبير ومعتقل الضفة البائس، فهذه دعوة لأن نقرأ علي الأمة السلام وندبج نعيها.
إننا ندرك بالطبع الحساسية المتعلقة بأي مداخلة من هذا النوع في وقت تتعرض فيه حماس خصوصاً والفلسطينيين عموماً لهجمة غير مبررة وغير أخلاقية. وهذا قد يدفع بالبعض إلي القول بأن الوقت ليس وقت التحليل العقلاني وجردة الحساب، وإنما وقت المساندة والدعم. ولكننا نعتقد دائماً أن أفضل الجهاد هو تبديد الأوهام المهلكة مثلما أن أول الإيمان هو معرفة وحدانية الله. ذلك أن تسويق الأوهام من باب الدعاية قد يخدم بعض الأغراض علي المدي القريب، ولكن الحق دائماً أحق أن يتبع.
الأراضي الفلسطينية لا تسمي أراضٍ محتلة عبثاً ومن باب المجاز، بل لأنها محتلة فعلاً. فهي بلاد واقعة في قبضة العدو وسكانها جميعاً أسراه. وما يسمي فيها سلطة وطنية ما هي إلا نقابة مساجين، تشبه اللجان التي كان النازيون يختارونها لإدارة شؤون نزلاء معسكرات الاعتقال، ولأن تكون حلقة وصل بين المساجين والسجانين. فكما نشهد اليوم فإن هذه السلطة لا تستطيع أن ترد عن نفسها سطوة الاحتلال، ناهيك عن أن تحمي شعبها منه. وقد مات ياسر عرفات رحمه الله وهو عاجز عن عبور عتبة باب مقره، واليوم تبعث إسرائيل من يعتقل الوزراء ويقتل رجال الأمن، وكل ما عند السلطة هو الشجب والاستنكار، وهي سلطة نملك نحن منها مثل ما تملك وأكثر. وقد أدرك أصحاب أوسلو هذا الأمر فنادوا بألا بديل عن طلب رضا إسرائيل بكل وسيلة إذا كان لهذه الآليات أن تعمل. وعليه فحين يهلل البعض لانتخابات نقابة المساجين هذه ويصفها بالحكومة الديمقراطية ويعلنها فتحاً مبيناً ونصراً مؤزراً للأمة، فإن هذا الموقف يكشف عن عمق أزمة الأمة وحجم مصيبتها ومصيبتنا فيها. هذه المهزلة المسماة سلطة هي تمثيلية سخيفة، تتيح لإسرائيل كما ذكرنا نقل مهام خدمة الاحتلال للفلسطينيين، وتعفي نفسها من الواجبات الملقاة علي عاتقها وفق ميثاق جنيف وهي توفير الحد الأدني من متطلبات الواقعين تحت سلطتها. وفوق ذلك فإن القبول بهذه التمثيلية يتيح لإسرائيل أن تتعامل مع فلسطين حين تشاء كما لوكانت دولة مستقلة لها حكومتها المسؤولة عن مواطنيها، في حين أن أكبر موظف في هذه الحكومة لا يستطيع أن يتحرك إلي مكتبه أو يستعمل هاتفه إذا اعترضت إسرائيل علي ذلك، ولا سلطان له علي الشارع أمام بيته، ناهيك عن الحدود. في مقالتنا السابقة تجاوزنا إلي حد كبير هذه المسألة، ولم نشأ أن نذكر بموقفنا المعروف من العمليات الانتحارية والتكتيكات المشابهة التي مازال ضررها أكثر من نفعها، واقتصرنا علي محاولة تقديم آراء في مسائل محددة، بدءاً من المأزق الفقهي الذي أدخلت حماس نفسها فيه بتبني قوالب فقهية جامدة تقوم أساساً علي فهم ضيق للسوابق، ونهاية بالفهم المغلوط للديمقراطية ومتطلباتها. وقد نبهنا في الحالة الأولي إلي أن في الفقه الإسلامي سعة من التمسك بشكليات لا تصلح للتعامل في هذا العصر، وتناقض أساسيات الإسلام في التعامل. فهناك مبادئ إسلامية عامة معروفة، وتطبيقات لهذه المبادئ. وبالمثل فهناك مبادئ تتعلق بالديمقراطية، وتطبيقات لهذه المبادئ.
الإشكال الذي نبهنا إليه ترجم نفسه في تناقض بين منطلقات حماس الفكرية وتعاملها مع الواقع. فما ذكرناه عن كون الديمقراطية توازن قوي لم يخف علي حماس، التي اعترفت بمشروعية وسلطة الرئاسة الفلسطينية وتقاسم الأدوار معها. ومن إدراك حماس لهذا الواقع فإنها استقتلت لتشكيل حكومة وحدة وطنية، وهو أمر لم تكن له ضرورة إذا قبلنا بالمبادئ الديمقراطية المجردة، لأن من يملك الأغلبية لا يحتاج لحكومة ائتلافية. ولكن قادة حماس كانوا يعلمون تماماً أن الأمور ليست بهذه البساطة. حماس أيضاً تعاملت مع محيطها العربي، ودخلت في مساومات مع دول معروفة الموقف من قضية التسوية، وبعيدة كل البعد عن شبهة الديمقراطية، واستندت إليها، ودأبت علي مدحها بالباطل تقية وتزلفاً، وهو أيضاً أمر مفهوم. نفس الموقف اتخذته حماس من قضايا الهدنة، حيث هي الآن داخلة في هدنة مفتوحة مع العدو، بالرغم من أن العدو لا يقبل بالهدنة ولا يلتزم بها. فهي هنا في وضع أسوأ من أوسلو التي اشتملت علي الأقل علي التزامات متبادلة.
ما تحتاجه حماس (وهو ما سعينا للمساهمة فيه) هو أن يلحق فكرها بممارستها، لأنها تجمع اليوم بين الجمود الفكري والمرونة السياسية، وهي مرونة لا تؤتي أكلها في ظل التمسك بمقولات متشددة تناقضها. فبحسب خالد مشعل رئيس المكتب السياسي، فإن حماس لا تمانع من قيام دولة فلسطينية علي حدود 1967، مما يعني عملياً الاعتراف المتبادل، ولكنها لا تريد أن تصل إلي هذا الاستنتاج، علي الأقل بدون مقابل. من جانبنا طلبنا من حماس ألا تعطي لإسرائيل المخرج من الورطة التي ستدخل فيها حين تواجه بمطلب الدولة (ناهيك عن قضية اللاجئين) الذي لن تستطيع الوفاء به. فإسرائيل اليوم (ومعها فتح ومعظم الدول العربية) تقول للعالم إنني مستعدة لحل الدولتين، ولكن حماس ترفض الاعتراف، مما يجعل من المستحيل التقدم باتجاه ذلك الحل. حماس بموقفها هذا أصبحت تمثل خط دفاع عن إسرائيل، وترساً يحميها من أن تكشف علي حقيقتها، وهي أنها لن تقبل بحل الدولتين. حماس أيضاً تبقي علي الوهم الذي تروج له أوساط السلطة الفلسطينية بأن الحل قاب قوسين أو أدني لولا حماس وتعنتها. ولو خلت حماس بين جماعة أوسلو وشركائهم لتبين الذين صدقوا وعلم الناس حقيقة الأمر.
إن أساس الخلل هنا يكمن في الترويج للوهم بأن الحل بيد الفلسطينيين، في حين أن الواقع يقول إنه لا توجد حكومة إسرائيلية، حتي لو لم تكن يمينية متطرفة مثل الحكومة الحالية، تستطيع أن تقبل بحل الدولتين كما تطرحه القيادة الفلسطينية، بل حتي كما يطرحه جماعة توافق جنيف المستعدين للتخلي عن حق العودة. ولعل الحل الذي طرحه باراك في لقاء واي ريفر هو الحد الأقصي الذي يمكن أن تتقدم به حكومة إسرائيلية، ولن تتغير هذه المعادلة إلا إذا أجبرت إسرائيل بضغوط خارجية علي التنازل. وهنا يمكن أن نشير إلي سر آخر من أسرار الديمقراطية، وهو استجابتها للضغوط الخارجية. وهذا أمر منطقي، لأن الناخبين إذا خيروا مثلاً بين الاحتفاظ بالقدس ومعظم الضفة بلا ثمن، أو التخلي عنهما اكراماً لعيون أبومازن، فإنهم سيختارون الحل الأول. أما إذا كان الخيار بين التخلي عن الضفة أو ضياع الدولة فإن المعادلة تختلف. وبما أنه لا توجد جهة خارجية قادرة علي، أو راغبة في، الضغط علي إسرائيل، فإن الأمر بيد العرب لا غيرهم لكي يجعلوا الاحتفاظ بمغانم إسرائيل من حرب 1967 مكلفاً. وكما حدث في حرب لبنان الأخيرة حين وجدت إسرائيل أن ثمن الاستمرار في الحرب أكبر من ثمن الانسحاب، فإن الوسطاء وفاعلي الخير سيتكاثرون عندها، بهدف إنقاذ إسرائيل طبعاً.
التعلق بوهم قدرة الفلسطينيين وحدهم علي تغيير الأمر، وهو وهم عززه ما وصف بأنه انتصار لحماس مؤخراً، يصرف العرب عن المهمة الحقيقية، ألا وهي تغيير الواقع العربي، لأن الانتشاء بانتصار حماس يعمل عند البعض عمل المخدر الذي ينسي العرب بأن أمة أشرف أنظمتها موقفاً هو النظام السوري القمعي هي أمة لا يمكن أن تنتصر ولا تستحق أن تنتصر. فليس الفلسطينيون هم وحدهم الأسري في هذه المعادلة، بل إن كل عربي هو اليوم أسير. الفلسطينيون علي الأقل أسري لعدو معروف له شوكة وسلطان واستقلال، أما بقية العرب فهم أسري لفئات رضيت طوعاً الخضوع لغيرها. أي أنهم عبيد العبيد، وأسري المماليك، وكفي به ذلاً. ولهذا يتعلق هؤلاء بكل وهم، وينساقون وراء كل ناعق، مما يؤخر الصحوة الحقيقية المرجوة للأمة، وهي صحوة لن تأتي إلا من اليأس الكامل من الواقع القائم.
الطريف هنا أن القوي السياسية في الساحة الفلسطينية عندما اختارت التحرك نحو وفاق محدود اتخذت مما سمي بـ وثيقة الأسري راية تلتف حولها. وهذا أمر له دلالته العميقة، إذ لم يكن اعتباطاً أن فقهاء المسلمين رفضوا إمارة الأسير. فهذا المبدأ، مثل معظم القواعد الفقهية الإسلامية، هو مبدأ عقلي بدهي، لأن الأسير لا يملك أمر نفسه فكيف يملك أمر غيره؟ وحين يستنجد أسري الأسري من العرب بأسري الاحتلال الإسرائيلي، ويستنجد هؤلاء الأسري حكماً بأسري آخرين حكماً وواقعاً، ألا يكفي هذا تدليلاً علي عمق الهاوية التي انحدرت إليها هذه الأمة التي أصبح أفضل القوم موقفاً من يطلب الإنقاذ من الأسري؟ القدس العربي 17/10/2006