كأنه يكتب تاريخه بيده, ويوثقه بالصوت والصورة والقلم, ليؤكد أنه يفنى كما الأنبياء والصديقين والشهداء, بارتقاءٍ لا يعلوه ارتقاء, يرحل من هذه الدنيا دون أن يموت, ويمتطي صهوة جواده ليطير به حياً إلى وعدٍ من الله عز في علاه, بابتسامةٍ ترتسم على محياه, فرحاً بلقاء من سبقوه من الصالحين والمجاهدين الأولين, ففي موته يرفض أن يكون نمطاً اعتيادياً كما يفعل الكثيرون, لأنه جعل من الميدان له مسكناً, ومن قعقعات الحرب شاهدةً على الجسارة التي تحلى بها, واعتاد أن يكون في الصفوف الأولى في كل شيء, لأنه حقاً كما عرفناه منذ البداية فارساً حراً أميناً,,, هو أخي و صديقي و زميلي و رفيق دربي, الشهيد الحي فينا مازن الطميزي .

قادمٌ من أرض الخليل...

مازن الطميزي القادم من أرض خليل الرحمن إلى بغداد, حباً وكرامةً ورغبةً في نيل العلم من منابعه الأصلية في عاصمة الرشيد, منذ أن عرفناه كان طرازاً آخراً من الشباب الممتلئ بالحيوية والحركة والنشاط, ملك التميز على مَنْ كان هناك من طلبة فلسطين المتميزين أصلاً بين الطلبة العرب, لأن في شخصه جزءٌ كبيرٌ من خصوصية الوطن, وآخرٌ أكبر من عذوبة أهل الخليل, وخفة ظلهم وسعة صدرهم وطيب مقامهم وكثرة كرمهم وسرعة نخوتهم, كان سفيراً فينا ولنا, ففي جلسته لا تسمع إلا ما يرضيك, و تطرب على ما يقول من طيب الكلم, يغزوك بنظرات عينية الخضراوتين, ليستشعر بطيبته وحسن نيته ما تريد أن تبوح به, و يوفر عليك جهدك سيما إن كنت تطلب عوناً, لأنه من "إذنا" التي لا ترد أحداً كما كان يحدثنا.

ففي الكرم تشهد لك يا "أبا سعود" موائد رمضان ومطبخ بيتك الشبابي, ودعوات التبرع لإخوانك الطلاب المستورين, ونشاطات العمل النقابي, وفي النخوة والإقدام, تعرفك باحات جامعة بغداد وقاعات "قاطع باب المعظم" و سكرتارية الطلبة العرب, التي طالما رميت بنفسك في حدائقها لتقارع باليد قبل الكلمة, كل من يزايد على أي شيء ينتمي لفلسطين, وأذكرك كيف سهرت مع مَن سهروا حتى الثانية عشر ليلاً لتعد وتجهز لمعرض تراثي وفوتوغرافي فلسطيني مقاوم, في ذكرى يوم الأرض, تناقله الإعلام العراقي, المرئي منه و المقروء و المسموع, و كيف كنت تأتي بالصحفيين وبطاقم الفضائية العراقية لتغطي لنا كل نشاط آنذاك, وكيف أخذت زمام المبادرة لتعطل الدوام, في كليات اللغات والآداب والتربية بن رشد والصيدلة والإعلام, دون إذنٍ جامعي, في سابقةٍ هي الأولى, لتخرجَ في مسيرةٍ رمزية تحمل نعشاً للطفل الشهيد ضياء الطميزي, و بقية شهداء فلسطين؛ لينقلب الحرم الجامعي على عقبه دون أن يملك أن يفعل شيئاً سوى الانخراط في المسيرة تحت قيادتك, وأذكر لك مشيتك البهية, التي كانت تفيض عزة و فخاراً بينما تغطي الكوفية الفلسطينية, كتفيكَ وصدركَ المُتسع لنا جميعاً, وكيف كنت من أول المُداومين في مقر الاتحاد العام لطلبة فلسطين بالوزيرية, وكيف حاربت النَفسَ العنصري بين غزة والضفة, و وسع حجرك و بيتك كل الآتيين من الأرض المحتلة على حدٍ سواء, و لا أنسى أبداً لك تصوفك في الانتماء لفلسطين حتى النخاع وحبك للعراق, يوم أن رفضت أن تخرج من بغداد قبل الحرب, وبقيت هناك تعيش حياتك الطبيعية مع الناس تحت قصف القنابل وعصف الصواريخ, لأنك اعتبرت هذا اختباراً للرجولة... !!! لله درك يا مازن...!!! و مَن هم الرجال إذن إن لم تكن أنت في طليعتهم ؟؟؟ فأنت اختصار العروبة في موقف, وأنت قائدٌ كما كنت فينا, وشجاعٌ كما رأينا, ومعضادٌ لنا كلما سعينا.

لكنهم قتلوك يا مازن...

قتلوك لأنك على النقيض منهم يا "أبا سعود", فأنت الحقيقة والرأي والموقف, وهم الكذب والعربدة والخوف, قتلوك لأن وجودك يلغي وجودهم, وصوتك يقهرهم, وأنفاسك تخنقهم, وحركتك تسجنهم, قتلوك لأنك الشاهد الأول على مهانة كرامتهم, فلا التقاء بينكم في الدنيا والآخرة, أبعدوك عن الحياة كي يستمروا في كذبهم وغيهم وبطشهم, واغتالوك لأنك ظهرت باسماً و أنت تؤرخ يوماً جديداً من أيام بلاد النهرين, وتبين أحداثه للعالمين اغتالوك لأنك رسول الحدث والإعلام الحر الأمين, وناقل الحقيقة التي فشلوا في اغتيالها.

هكذا يكون موتك يا مازن...

تموت يا مازن بكبرياء, تموت كالرجال وقوفاً, كباسقات النخل في بغداد, لتقبل أرض الرافدين, كما فعل الأنبياء الذين دفنوا فيها والأولياء والصالحون, وتسقط في شارع حيفا لتختصر المسافات, وتجمع بين شطري العاصمة القديمة في الكرخ والرصافة, وكأنك تعيد توحيد البلاد في حقيقة الجرح العميق المكابر, و تؤكد وجود النزف, ليتنبه الناس جميعاً كي يُضمدوا جراحهم فيك, ليسيروا على درب الحقيقة, ويكشفوا قباحة وجه القاتل أمام عدسات الكاميرات.

يا مازن...

في فلسطين أنت وُلدتَ, وعلى أرضها تربيتَ, وسكنت فيك قبل أن تسكن فيها, ليكون العناق ويستمر, لتظل ريح الوطن فيك باقية, دون أن تدري كيف يصير بينكما الحب جنون, فتبتعد عن فلسطين في بغداد بالجسد العائد إليها فيما بعد بلا حراك, و لكنك تقترب منها أكثر بروحك حينما تختار "حيفا"؛ ذاك الشارع البغدادي لتسكن فيه, ليعيدك الاسم إلى ذاكرة و خارطة الوطن في فلسطين, في إشارة إلى الانتماء الذي لا يغيب بفعل السفر, فتحكمك قيم الرجولة بعد أن غاب القانون و تبخرت الفضيلة, ولا تقفَ عند هذا بل و تستمر في صنع الحلم الذي تمنيته, و هو حياة شريفة أو شهادة تُعزُ فيها عند المولى, لتحوزَ الأولى و تفوزَ بالثانية, فتنشرح أساريرك بينما روحك تصعد إلى السماء في سلامٍ وطمأنينة, في ذكرى الإسراء والمعراج قبل عامين من الآن مضيا, و يرقد الجسد على الأرض والدم ينزف, ليكتب قصة فارس عاش بطلاً وترجل شهيداً وهو يقرأ رسالته التي بدأها وعلينا أن نكملها.

* المقالة تمثل مرثية للصديق و زميل الدراسة الإعلامي مازن الطميزي الذي اغتالته القوات الأمريكية و هو يقرأ رسالته الإخبارية في العراق قبل عامين . - مفتاح 6/9/2006 -