أسابيع مرت على اتفاق مكة.. حمى شديدة أصابت كل أطراف الحركة الوطنية والإسلامية.. مراثون كبير يدور للفوز بالحقائب الوزارية.. بازار انفتح ومساومات تجري على كل شيء.. موقعو الاتفاق من قطبي الرحى-- التي لطالما طحنت شعبنا-- يلاعبان بعضهما البعض.. يبتسمان في الوجه-- ويديران معاركهما الثنائية في الخفاء.. حماس تحاصص فتح-- لان فتح هي المستحوذة أصلا على كل شيء.. تحاصصها علنا وعلى المكشوف-- وهذا وفقا للاتفاق.. تريد سفراء ومحافظين ووكلاء وزارات ومدراء عامين وتوظيفات في شتى الأجهزة الأمنية والمدنية.. هي الأخرى تمارس الفساد الإداري.. وتقول لفتح كما فعلت سابقا جاء اليوم دوري لأفعل نفس الشيء ( فلا احد أحسن من احد ).. لأهبر واهبش من المغانم ما يكفي حاجة قواعدي.. وفتح التي مارست الفساد الإداري أصلا.. ودفعت ثمنا غاليا جراء سوء أدائها.. ترد بان ذلك لا يجوز وهو خروج على القوانين.. فتح ترفع شعار القوانين بوجه حماس.. ليس لأنها محبة للقوانين-- ولكن لتحتفظ لنفسها بالنصيب الأكبر من الكعكة.. حماس أدارت ظهرها لشعار الإصلاح .. واكتفت بالجزء الأول منه وهو التغيير.. وها هي تجري التغيير على طريقتها-- الذي يعني بالنسبة لها تغيير الواقع الذي تستحوذ فيه فتح لوحدها على المغانم-- لتدخل هي شريكة فيه...
نسي الجميع بما فيهم قوى اليسار شعاراتهم عن الفساد الإداري.. ونضالاتهم ضده.. ونسوا ما كانوا يتناولونه في خطبهم وأدبياتهم صبحا ومساء عن أهمية الشراكة السياسية.. واندفعوا هم أيضا للبحث عن بعض من الفتات المتطاير من ( تناتش ) الكبار للغنيمة.. اليسار الذي ظل على الدوام يحلل الأمور بطريقة صحيحة.. مارس وكالعادة خلاف تحليلاته.. لينطبق المثل القائل ( يعطي غماز على اليسار ويسير باتجاه اليمين ).. اليسار الذي انشطرت كتله ليلهث كل مكونا منها ليضمن لنفسه حصة ( محرزة ) من الغنيمة.. هذا يريد وزارة وذاك اثنتين.. وثالث يريد المحاصصة.. حتى وان كان خارج البرلمان.. وجميعهم يساومون في الخفاء ويخرجوا للرأي العام بإعلان عن شروط أو أسس.. يريدون أن تأخذ بها الحكومة في برنامجها.. ونسي هذا اليسار-- أو نسي كل واحد من مكوناته-- انه لا يملك قوة الضغط على فتح أو حماس.. وهما أي فتح وحماس كانا في مكة قد ضربا بعرض الحائط بكل مكونات الحركة الوطنية والإسلامية الأخرى.. وتفاوضا لوحدهما.. وتحاورا منفردين.. وصاغا اتفاقا يؤسس لنظام سياسي مسخ-- يقوم على أساس التقاسم الوظيفي ونهج المحاصصة.. فأي من القوى الصغيرة-- حتى وان دخلت الحكومة-- لن تكون أكثر من ديكور تجميلي للحكومة.. حتى يبقى اسم الدلع لها ( حكومة وحدة وطنية ).. وبسبب تفتت اليسار وما يضمره كل مكون منه للآخر.. فان أي قوة ترفض المشاركة لأسبابها الذاتية.. فان العديد من المكونات اليسارية الأخرى ستنقض وتتسابق لتاخذ مكانه.. وبذلك يكون هذا اليسار التقليدي قد أضاع فرصته الذهبية ليعلن عن نفسه تيارا ثالثا على الساحة.. في مواجهة كلا من فتح وحماس.. ويكون قد أضاع فرصته أيضا ليكون عنوانا تتجه نحوه الجماهير.. التي ستجد-- ولو بعد حين لن يطول-- أنها لم تخرج من أزمتها ودوامتها.. بل وتفاقمت أوضاعها سوء.. وعندها لن تجد العنوان الذي تلجا إليه ليدافع عن مصالحها.. ويحميها من تغول طرفي السلطة الرئيسيين.. وعندها أيضا سيحمل الشركاء الصغار وزر أخطاء وخطايا الكبار.. وستعاقبهم الجماهير بأشد مما تعاقب الكبار..
المحاصصة سمة ستظل تلازم الحكومة طوال عمرها-- الذي يقدر البعض من المتفائلين بأنه لن يزيد عن ستة أشهر إلى عام على الأكثر-- وذلك لان حكومة تقوم على المحاصصة والتقاسم الوظيفي ستكون حكومة جمود.. عاجزة عن فتح الملفات الأساسية المتوجب فتحها.. فيما لو أرادت الحكومة النجاح في ترتيب البيت الفلسطيني.. فمن سيفتح ملفات الفساد.. ومن سيوقف الفوضى والفلتان.. ومن سيفرض القانون ويطبقه على آلاف المجرمين القتلة المدعومين من هذا الطرف أو ذاك.. من هذا الزعيم أو ذاك..
والمحاصصة لن تقف عند حد المحاصصة على الوظائف العامة.. فمثلما تحاصص حماس فتح.. ويطالب الساعين للمشاركة بالحكومة حركة حماس بحصة مناسبة... فان المحاصصة وصلت إلى داخل أجسام التنظيمات--- فالهيئات العليا تحاصص قائدها.. والهيئات الوسطى تحاصص العليا.. والقواعد تحاصص القيادات كلها.. محاصصة بالوظائف .. ومحاصصة بالمناصب والمواقع.. ليجد الجميع أنفسهم وقد غرقوا في دوامة المحاصصة-- التي ستفسدهم وتشل قدراتهم.. وتجعلهم ينشغلون بها لشهور وسنين.. بل وستشلهم وتفتتهم وترسخ في الأحقاد في صفوفهم.. * عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني - مفتاح 5/3/2007 -