هل تأجَّل بحث قضية القدس (الشرقية) إلى المرحلة الأخيرة من المفاوضات الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، منذ أن افتتحها لقاء أنابوليس، أم لم يتأجَّل؟ نتساءل عن هذا الأمر؛ لأنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت زعم أنَّه اتَّفق مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على تأجيل التفاوض في شأن هذه القضية المعقَّدة، فما كان من المستشار السياسي لعباس إلاَّ أن كذَّب هذا الزعم، مؤكِّداً أنَّ مستقبل القدس قضية أساسية غير قابلة للتأجيل، أي أنَّها قيد التفاوض، أو على الأقل، سيُبْحَث أمرها قبل الوصول إلى المرحلة الأخيرة والنهائية من عملية التفاوض.

هذا كل ما لدينا في هذا الأمر، ولن تأتي الأيام، أو الأسابيع، أو الأشهر، المقبلة بما يؤكِّد، أو ينفي، وجود تفاوض بين الطرفين في شأن مستقبل القدس؛ لأنَّ المفاوضات، مع ما تتمخَّض عنه من نتائج، إذا ما افترضنا أنَّها قد تمخَّضت، أو قد تتمخَّض، عن نتائج، تجري بعيداً عن الأضواء الإعلامية، مخافة أن يؤدِّي تسليط الأضواء عليها إلى إفساد ما أحرزته، أو يمكن أن تحرزه، من إنجاز، أو إلى ما يمكن أن يؤدِّي إلى عرقلة سيرها، وإفشالها؛ وعليه يستطيع كلا الطرفين أن يتحدَّث في هذا الأمر (أمر التفاوض في شأن القدس) بما يخدم مصالحه.

وحتى لا يُساء فهم ما زعمه أولمرت نقول إنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يريد التفاوض في شأن القدس الآن؛ لأنَّ "التنازلات" التي سيقدِّمها توصُّلاً إلى حلٍّ نهائي لهذه المشكلة الكبرى يمكن أن تكون في حجم، وفي نوعية، تُغْضبان حركة "شاس"، مثلاً، فينفرط عقد ائتلافه الحاكم قبل أن يتمكَّن من أن يدفع عربة السلام مع الفلسطينيين دفعة قوية إلى الأمام، فأمر كهذا (أي تلك "التنازلات") لا يشغل حيِّزاً من تفكيره واهتمامه، وليس في خططه التفاوضية حتى في المرحلة الأخيرة من عملية التفاوض. لقد أراد أن يُظْهِر نفسه على أنَّه ملتزم تأجيل التفاوض في شأن مستقبل القدس حتى تلك المرحلة الأخيرة؛ لأنَّه يعلم أنَّ بحث هذه القضية في حدِّ ذاته ليس بالأمر الذي يمكن أن ينزل برداً وسلاماً على ائتلافه الحاكم، الذي يضم قوى ترفض من حيث المبدأ أن تكون "العاصمة الأبدية الموحَّدة" لإسرائيل محل بحث أو تفاوض، الآن ومستقبلاً.

والذي يسمع أولمرت يتحدَّث عن اتفاق مع عباس على تأجيل البحث في هذه القضية المعقَّدة والصعبة إلى المرحلة الأخيرة من عملية التفاوض يظن (أي يتوهَّم) أنَّ القضايا الأساسية والجوهرية الأخرى (اللاجئون، والحدود، والمستوطنات، والمياه) هي الآن مدار تفاوض جاد، ومثمر، وقد يُعْلَن عمَّا قريب نبأ التوصُّل إلى اتفاق في شأنها.

ونحن لو أحْسنَّا الظن في نيَّات ومواقف أولمرت المُعْلَنة وغير المُعْلَنة، مع أنَّ الإثم (السياسي) بعينه أن نُحْسِن الظن في ذلك، فلن يسهل علينا توقُّع أن يتوصَّل الطرفان إلى أي اتِّفاق أساسي ضِمْن الجدول الزمني الذي حدَّده لقاء أنابوليس قبل أن يأتي رئيس الوزراء الإسرائيلي وشريكه العمالي وزير الدفاع إيهود باراك إلى الإسرائيليين بإنجاز عسكري كبير، يعيد إلى الجيش الإسرائيلي ما أفْقَدته إيَّاه حرب تموز ـ آب في لبنان من مكانة وهيبة وقوَّة ردع، فالبحث عن انتصار عسكري لهذا الجيش (ولحكومة أولمرت) هو ما يستبد بتفكير رئس الوزراء الإسرائيلي، ويتحكَّم في سير المفاوضات مع الفلسطينيين، صعوداً وهبوطاً، تسارعاً وتباطؤاً، وفي نتائجها، حاضراً ومستقبلاً.

حكومة أولمرت، وإذا ما غسلنا عقولنا من كثير من الأوهام، ليس لديها من المواقف السياسية والتفاوضية والعسكرية، في علاقتها بالفلسطينيين، وبالطرفين الفلسطينيين المتصارعين، إلاَّ ما يفيدها في تعميق أزمة الخيارين الفلسطينيين: "خيار التفاوض"، و"خيار المقاومة (في شكلها المسلَّح على وجه الخصوص)".

بما تفعله في قطاع غزة، تريد أن تأتي للمفاوض الفلسطيني بمزيد من الأدلَّة العملية على أنَّ "خيار المقاوَمة (وفي شكلها العسكري على وجه الخصوص)" لن يأتي للفلسطينيين، وللقائلين به وملتزميه، إلاَّ بمزيد من الموت والدمار والكوارث والمآسي، وأنَّ ترجمة الفلسطينيين لنتائجه بمكاسب سياسية لهم هي من الوهم، والوهم القاتل، بمكان.

وفي الوقت نفسه، تريد للمفاوضات التي تجريها مع السلطة الفلسطينية برئاسة عباس أن تأتي للقائلين بخيار المقاومة العسكرية بمزيد من الأدلَّة العملية على أنَّ "خيار التفاوض" لن يأتي للفلسطينيين، وللقائلين به وملتزميه، إلاَّ بما يُمْعِن في إضعاف وتقزيم مطالبهم وحقوقهم السياسية والقومية الأساسية.

ويكفي أن تسأل "المفاوِض الفلسطيني" عن البديل من "خيار الحل عبر التفاوض"، غير المثمر، أو إذا ما فشل في تحقيق أي إنجاز قبل مغادرة الرئيس بوش البيت الأبيض، حتى ترى في "جوابه" ما يؤكِّد لكَ أنَّ استعصاء، أو غياب، هذا البديل هو السبب الأهم الذي يغري إسرائيل بمزيد من التشدُّد التفاوضي.

ويكفي أن تسأل "المقاوِم الفلسطيني" عن البديل من "خيار الحل عبر المقاومة (المسلَّحة)"، حتى ترى في "جوابه" ما يؤكِّد لكَ أنَّ استعصاء، أو غياب، هذا البديل هو السبب الأهم الذي يغري إسرائيل بتشديد الحرب والحصار على قطاع غزة.

وعليه، يصحُّ موقف "المفاوض" إذا ما سأل "المقاوِم" عمَّا أحرزه خيار "الحل عبر المقاومة (العسكرية)" من مكاسب للفلسطينيين؛ كما يصحُّ موقف "المقاوم" إذا ما سأل "المفاوض" عمَّا أحرزه خيار "الحل عبر التفاوض" من مكاسب للفلسطينيين.

واحسبُ أنَّ فشل الطرفين الفلسطينيين المتصارعين في حلِّ نزاعهما بما يؤسِّس لـ "خيار (ثالث) جديد" يقوم على تقويم التناقض بين "الخيارين القديمين" هو ما يُلْحِق بالفلسطينيين وقضيتهم القومية مزيداً من الضرر.

وكلا الطرفين لم يستوفِ بَعْد، إذا ما كان ممكناً أن يستوفي، شروط تغيُّره بما يذلِّل العقبات من طريق إنشاء وتطوير هذا "الخيار الثالث"، الذي ليس له حتى الآن، وفي الطرفين، من قوَّة تسنده أو تتبناه. ولعلَّ هذا هو ما يجعل هذا الخيار يبدو من "المنطق" الذي تلفظه "حقائق الواقع الفلسطيني".

والمأساة تَعْظُم إذا ما عرفنا أنَّ الطرفين يعترفان بأنَّ استمرار نزاعهما، مع مواقفهما التي تصلح وقوداً لهذا النزاع، هو ما تريده إسرائيل، وتسعى إليه، ويخدم مصالحها وأهدافها؛ ولكنَّهما يُظْهِران عجزاً عن الخروج من مساريهما، وكأنَّهما نهر لا يملك تغييراً لمجراه.

ولا شكَّ في أنَّ يد المفاوِض الإسرائيلي، ويد المحارِب الإسرائيلي، لن تتوقَّفا عن العمل معاً بما يؤدِّي إلى تكريس وترسيخ ما يعانيه الفلسطينيون الآن من انقسام سياسي وجغرافي وديمغرافي، فاستمرار واتِّساع وتَعَمُّق هذا الانقسام هو الطريق الأقصر إلى جَعْل القضاء على جوهر القضية القومية للشعب الفلسطيني هو جوهر الحل النهائي. وتُفضِّل إسرائيل أن يتحقَّق لها ذلك عبر المفاوضات السياسية، فإذا استعصى على المفاوِض الفلسطيني قبول هذا الحل النهائي الإسرائيلي، فلن تتردَّد إسرائيل، عندئذٍ، في إغلاق بوَّابات "الجدار الأمني"، الذي استكملت بناؤه في عمق أراضي الضفة الغربية، وتَرْك الفلسطينيين شرق الجدار يحاولون "استقلالاً" كالذي حاوله، ويحاوله، أشقاؤهم في قطاع غزة.

ولِمَ لا تأخذ إسرائيل بهذا الخيار، عندما تفشل في جعله جوهر الحل النهائي الذي تنتهي إليه المفاوضات، إذا ما حقَّق لها الأمن الذي تريد، وضَمِن لها سيطرة دائمة على القدس الشرقية، وعلى أجزاء أخرى كبيرة ومهمَّة من أراضي الضفة الغربية، وأبقى "يهودية" دولتها بمنأى عن مخاطر "حق العودة" للاجئين الفلسطينيين؟!

لِمَ لا تأخذ به وهي تتوقَّع أن يؤدِّي اشتداد حاجة الفلسطينيين في "الشطرين"، أي قطاع غزة وبقايا الضفة الغربية، إلى الاتِّصال الجغرافي عبر أراضيها إلى التوصُّل إلى اتِّفاق على حلٍّ نهائي لا يختلف في أساسه وجوهره عن "حل الأمر الواقع"؟!