أما وقد استزلم الأنصاف على الأنصاف, إيغالا في ظلم ذوي القربى, بعد أن كسروا الرقم القياسي لمعدلات التوغل في اللامعقول, دينيا ووطنيا وإنسانيا, فإن النتيجة التي ثبت يقينها تؤكد أن مجموع الكل يساوي نصفا ناقص نصف,,, لذا فإن المعادلة الفلسطينية تعيش استعصاء زمن الأرباع العجزة, الذين ألبسوا القضية ثوبا ممزقا لا يستر عوراتنا, بعد أن كشفوا رداءها وقدموها هدية لمغتصبها الحقيقي, الذي أضحى لا يخجل من مراودتها أمام عيون رعاتها, لأنهم ليسوا أكثر من قوادين دون القادة. وبات معلوما, أن المقاوم لا يقاوم, والمفاوض لا يفاوض, وأن غزة التي تعيش فوبيا مأساوية, تغرس رأسها خجلا في الرمال, كالنعامات التي تفعل إن أصابتها مصيبة أو نزلت بها نازلة. فغزة الآن دون مواجهة العاصفة, وقد كنا نظنها توهما فيما سبق, أنها تشابه الصقور التي لا تُلاعب ولا تُحبس في قفص ولا يستأثر أحد عليها بالصيد,,, أما وقد طغى زمن الأرباع, ضفيا وغزيا, فقد حق عليها القول, لتكون بذلك مشمولة بخطوات التقهقر والتراجع الوطني الكامل, الذي تعيشه القضية الفلسطينية في كافة المحافل, على مستوى العناوين والتفاصيل على حد سواء. فعدنا كاليتامى والعود هنا ليس بأحمد, إلى ما قبل البداية الأولى التي مات من أجلها أبونا الراحل ياسر عرفات, الذي صارت كوفيته اليوم كعصا موسى التي لا تظهر إلا في الأزمات, لنعيش كارثة الكل الذي يتسول الدول والشعوب النظر إلى مأساته الإنسانية, بعد أن طوينا ببعد نظر أولي الأمر العميان صفحة القضية السياسية التي في سبيلها قضى الرجال الرجال, وبقي الأشباه يطعموننا الشعارات والتصريحات ليس أكثر, فيما العدو يناقض بمسلكه الاحتلالي, كل قولهم الخطابي الكذوب, قصفا وعصفا.

صديق يساري في غزة جدير به أن يكون مسموعا, وهو جبان بالمناسبة بفعل فاعل؛ ولكنه يجيد فن التقييم الجيوسياسي, يرفدني بكل ما يجري في غزة هاتفيا, ويوافقني اللسان في استخدام وصف "فوبيا" لما يجري بها. انقطع عني ليومين كان غائبا خلالهما في العريش, يتنفس ويتزود ويرقب حركة المواطنين, يقول لي أن الناس تتألم وتتظلم وتتكلم, وهم مقبلون على الخروج من أية ثغرة تُفتح, فقلت بارك الله في من فتحها لهم, فجاوبني بارك الله في الذين أدخلوهم ديارهم, ولا بارك الله في من فتحها جزاءا وفاقا لطريقة الفتح, فشُدهت؛ ولما السخط يا صديقي؟ فتنهد قائلا, أستخدم الفاتحون الجدد, بنادقهم المصرية أصلا, ورصاصا مصريا, على أرض مصرية ووجهوه نحو صدور جنود مصريين! فقلت: عار عليهم والله إذا فعلوا ذلك عظيم.

فسألته عن موقف الرئيس الفعلي مما يجري, فاختصر مجيبا, ما زاد حنونُ في الإسلام خردلة ولا النصارى لهم شغلٌ بحنونِ, فاستدركت: إلى هذا الحد؟ فرد صديقي؛ السيد الرئيس يأكل الحصى ظنا منه أنها ثمر, فالرجل لا حول لا له ولا قوة وهو دون مستوى الحمل والواجب, لأنه لا يتقن إلا المطالبة الخجولة العرجاء في حمى الاستبداد التفاوضي العبثي, فذكرته بحادثة وقعت مع الرئيس الفرنسي مكماهون صاحب المراسلات الشهيرة, حينما دخل عليه صديقه غامبتا وقد استبد الرئيس في أمر واحد, وقال له: الأمر للأمة لا إليك, اعتدل أو اعتزل, وإلا فأنت المهان المخذول الميت. فتبسم صديقي ابتسامة ضاحكة توحي وكأنه قد أومأ رأسه بمشاطرتي المغزى, واستزاد محذرا من أولئك الشيوخ الذين هم بطانة العجز التي تلف السيد الرئيس, قائلا: لا تحفل بهم إطراقا وسمعا, فهم ضائعون بين التلهف والتأفف الظاهر على الشاشات, ولك أن تكتشف بحكم الدراية, أن أحدهم يحاول خداع الناس, وما يخدع غير امرأته التي تتحفف بين عجائز الحي في دارها, أن زوجها من كبار ذوي العقول والرأي, وما رأيه إلا رأي سوء ونزاع, فيما يبدو آخر منهم مغاليا في التفلسف والإصلاح, يلجأ إلى الرجولة, كما يلتجأ قليل العز للتكبر, وقليل الصدق لليمين, وما هو إلا غشيم في فقه الإفادة والإدلاء, يؤجج المشاعر ويبعث كلامه على الاستمرار في البلوى.

فتبادر إلى ذهني, السؤال عن رأي رئيس الحكومة المقالة في كل ما يجري سيما وأنه مكثر في توظيف آيات الله, فقال لي, رأيه من رأي ديمومة الجلوس على العرش, ولو كان تحته خازوق أجوف, فهو لا زال يستعين بخطابة الإفتاء لتسكين الناس الذين أعياهم الشقاء. فجذبني الحديث للولوج في سماع أحوال القطاع وعلاقته بتيار الحاكمين الجدد, الذين يتكاثر الناطقون باسمه كما تفعل الطحالب في المياه الآسنة, فأسمعني الصديق قولا عجبا: الساسة الجدد, يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي والتشامخ الحسي, والميليشيات تذلل الشعب بالقهر والقوة والسلب تحت يافطة الجمارك والمكوس, حتى يجعلونهم خاضعين لهم, عاملين لأجلهم, يتمتعون بهم كأنهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون.

بعثرني صديقي بكلامه الحزين, فقلت له؛ ما الحل برأيك؟ وأين الفصائل في القوى الوطنية والإسلامية الأخرى؟ فقال لي: لسان حالهم الحقيقي كالرجل الذي أصابه المس من الجنون فرحا, وهو يرى جاره قد وقع في الخبل والالتواء العقلي هذيا, لأن الحي كله سيشهد حينذاك أنه العاقل الوحيد المتبقي, أما الإعلان الإعلامي على الفضائيات, فهو مختلف تماما بحكم ضروريات التقية السياسية.

وقبل أن أختم معه هاتفيا, نهرته مقرعا إياه على عزوفه عن الكتابة, وأنا الذي يعلم أن قلمه سيال, فهل جف حبرك يا صديقي؟ أم أنك جبان تخاف البوح؟ فقال لي: أنا جبان بفعل الصدفة في زمن أرباع القادة, وأنصاف كتبة النصوص غير المكتملة تفخيما وتبجيلا, ولكني بالفطرة مقدام كما تعرفني, فالآن نعيش زمن التضاد مع طبيعة الأشياء وصيرورتها, فكل شيء عكس الفطرة السياسية التي تربينا عليها. حينها لاح في خيالي طيف الصحفي العزيز, منير أبو رزق, فهل خرج من معتقلات حملة العرش الجديد؟ هكذا سألت, وجاءني الجواب سريعا, لا زال قيد الاختطاف القسري بتهمة الانتماء إلى الوطن, وأردف مسترسلا بإخبار تطوعي, أما الكاتب عمر الغول فهو أيضا لا زال دون الشمس لا يراها على خلفية الإفادة والتعليل في الزمن والمكان الخطأ. فقلت وأنا أضحك خارج الدائرة, بعيدا عن كل سياق,,, عمـــار يا بلدنا عمار, وأغلقت الهاتف دون وداع, حينها فاتني أن أقول لمحدثي متمنيا له الراحة والخلاص, تصبح في كفن يا صديقي.

*الكاتب فلسطيني في قبرص.