لم يعد أمام الفلسطينيين خيارات كثيرة للتناور والتحاور، فالقتال والتنازع والصراع يقلل من الخيارات المتاحة أمام المتنازعين، فإما خيار البقاء وإما خيار استمرار القتال والتنازع وصولا الى حالة من حالات تدمير الذات والتذويب الداخلي وهذا هو شأن الحالة الفلسطينية المعقدة اليوم ويبدو أن الفلسطينيين لم يكتفوا بتعقيدات قضيتهم وتداخل مكوناتها الإقليمية والدولية بل أضافوا إلى ذلك فشلهم في إدارة أمورهم السياسية وبناء أسس مجتمع قوي يمكنه أن يمتص ويحتوي كل التناقضات في إطار وعاء عام يوفر إطارا واسعا للتعايش والتوافق الذاتي.
لقد كان لقرار "حماس" المشاركة في الحياة السياسية وفوزها في الانتخابات دلالات سياسية كبيرة منها أن النظام السياسي الفلسطيني بصورته ومكوناته السابقة لم يعد قادرا على استيعاب المتغيرات والتحولات الجديدة ومن هنا كان يفترض أن يفكر الفلسطينيون ومنذ البداية في إيجاد حلول لهذا التحول من خلال إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني ليتسم بمرونة سياسية كبيرة ويفسح المجال في الوقت ذاته أمام تعددية سياسية وشراكة سياسية حقيقية وأن يحدد إطارا عاما للحركة السياسية تلتزم بأسسه وثوابته كافة القوى السياسية الفلسطينية وهذا ما لم يتم، وانعكس ذلك منذ فوز "حماس" بالانتخابات البرلمانية في يناير 2006 وولوج النظام السياسي الفلسطيني في صراع وتنازع حول احقية أي من البرنامجين أفضل لإدارة الشأن الفلسطيني، برنامج سياسي تقوده "فتح" بمرجعية وشرعية معينة، وبرنامج تقوده وتتبناه "حماس" بمرجعية دينية وشرعية سياسية استندت على الانتخابات..
وحيث أن الإطار الذي يوفره النظام السياسي تعتريه كثير من النقائص والعيوب فكانت النتيجة الحتمية الصراع والتنازع على صلاحية أي من البرنامجين والتنازع والصراع على الشرعيات والمرجعيات السياسية.. وبدلا من السير في اتجاه تأصيل صيغة من التعايش السياسي الحتمي في اطار من التوافق الوطني العام استمرت حالة التنازع والصراع والقتال الداخلي بين القوتين الرئيسيتين وهي في الواقع صراع بين برنامجين سياسيين وشرعيتين سياسيتين..
ومما ساهم في تعميق هذا الانحدار والخلاف عوامل داخلية تمثلت في تراجع أداء الأجهزة الأمنية عن أداء وظائفها في توفير السلم الاجتماعي وتضخمها وتراجع دور القضاء في تعزيز مبدأ سيادة القانون والاستمرار في صراع الصلاحيات في سياق غياب إطار دستوري، وفقدان هيبة السلطة، وتراجع مقياس الشرعية لها، وتنامي ثقافة العنف والقوةة بدلا من ثقافة التسامح والقبول والتعايش، وفي الوقت ذاته تنامي دور التنظيمات والأذرع العسكرية للقوى والتنظيمات الفلسطينية وكلها تحتمي تحت اطار ما يسمى بالمقاومة وترافق ذلك مع حصار اقتصادي وسياسي ساهم في تعميق حالة الانقسام والصراع الفلسطيني الداخلي.
وفي ظل غياب قواعد الانضباط والأمن الداخلي استمر سلم النزاع في الصعود حتى وصلنا الى حالة من الانقلاب الذاتي على السلطة والشرعية القائمة وهكذا وجد الفلسطينيون أنفسهم أمام واقع سياسي جديد بمعطيات ومتغيرات إقليمية ودولية جديدة أيضا وتسارعت الأحداث وهذا أمر طبيعي في أدبيات النزاع لتصل معها الأمور الى درجه من الانقسام والتفكك ونفي كل طرف للآخر وإنكار كل طرف لشرعية الآخر والأمر الذي قد يكون مقبولا في حالة دول ليست محتلة فهذا يمكن تصوره وحتى قبوله واستمراره لان الانقسام قد يجد القبول والاعتراف من قبل الآخرين مما قد يساهم في استمراره، ولكن في الحالة الفلسطينية الوضع مختلف فالجميع في حالة احتلال للارض والسيادة وبالتالي التقسيم هنا لا مضمون له ولا معنى له ومحكوم عليه منذ البداية بالفشل والوصول الى طريق مسدود..!!
كان يمكن ان نتصور قيام كيان فلسطيني مستقل في الضفة الغربية والآخر في غزة مهما كان الحيز المكاني المتاح لممارسة السلطة لاي منهما ويمكن ان نتصور ان يتعامل العالم معهما ولا يترتب عليهما مشاكل كثيرة ولكن هذا يمكن تصوره فقط في حالة الاستقلال وعدم وجود الاحتلال والأمثلة كثيرة في العالم على ذلك ولكن في ظل الاحتلال وضياع الأرض والهوية وتشعب القضايا الرئيسية المرتبطة بالقضية الأم، وهنا أسوق فقط قضيتين اللاجئين وقضية القدس، والسؤال ما هو مصير هاتين القضيتين في ظل الانقسام والتجزئة؟!
وفي يقيني لو تفحصنا الخيارات المتاحة امام كل من "حماس" و"فتح" مع التسليم والافتراض انه قد باتت لدينا حكومتان وسلطتان وشرعيتان والسؤال ما هي الخيارات المتاحة امام كل منهما هل يستطيع كل مهما ان يستمر في خياراته نحو التقسيم والتجزئة وهل يملك كل منهما القدرات والإمكانات المادية والبشرية الذاتية وهل تتوافر لكليهما العوامل الإقليمية والدولية الداعمة؟ اعتقد في ضوء كل العوامل وعناصر تكوين الحكومات المتاحة فالخيارات تسير في اتجاه مسدود ولن توصل الى أفق أوسع في التعامل الإقليمي والدولي.
قد تستمر الحالة الى فترة زمنية ولكن في النهاية لا إمكانية أمامهما الا العودة إلى البحث عن صيغة الى التعايش الحتمي. وهنا يبدو النموذج الفرنسي واضح في غلبة التعايش، وفرنسا على سبيل المثال ظلت لسنوات طويلة تدخل من ثوره الى ثورة ومن دستور الى آخر ومن عنف الى آخر إلى ان نجح ديغول عام 1958 في تأسيس الجمهورية الخامسة لتشكل إطارا للشرعية السياسية الملزمة لكافة القوى، ولذلك عندما فكر فرانسوا ميتران القفز على الجمهورية الخامسة ومؤسساتها فشل في الإنتخابات أول مرة إلى أن تعايش معها ليحكم بعدها أربعة عشر عاما ولكن في ظل صيغة من التعايش ما زالت قائمة وهي التي تحمي الجمهورية الخامسة حتى الآن.
الفلسطينيون في حاجة الآن وبشكل أقوى من ذي قبل إلى التأكيد على شرعية مؤسساتهم والبحث في إطارها عن صيغة للتعايش السياسي الحتمي، تشكل حيزا ضابطا وملزما للجميع، ولعل المدخل الحقيقي للخروج من عنق الزجاجة هو في بناء نظام سياسي يقوم على صيغة التعايش وليس بالضرورة صيغة الوحدة الكاملة، وهي أمر مستبعد في هذه المرحلة..
إذن نحن في حاجة الى قيادة تاريخية مدعومة بتأييد شعبي تعلو على خلافاتها وتأخذ القضية الفلسطينية بعيدا عن سيناريوهات التصفية والاستئصال، وفي حاجة لمراجعة شاملة للبرنامج السياسي الفلسطيني كله وحتى على مستوى القوى الفلسطينية نفسها، وعلينا أن نتعامل مع كل المعطيات السياسية التىي تؤثر في القضية الفلسطينية بلغة واضحة ودون مواربة وغموض، وعلينا أن لا نتعامل مع القضية الفلسطينية بأسلوب النعامة التي تدفن رأسها في الأرض.
قد لا تبدو الصورة بهذه البساطة والسهولة لأنها تحتاج إلى إعادة شاملة للمنظومة السياسية والأمنية، والى توافر النيات السياسية، فالتعايش ليس مجرد شعارات وعبارات نظرية، بل هي صيغة وبرنامج عمل يعيد للمشروع الوطني هويته الفلسطينية، ولعلي لا أبالغ إذا قلت أن الحل ليس صعبا مع توفر الإرادة على ذلك، وأولى الخطوات الكف عن هذه الحرب الإعلامية التي تعمق من فجوة التنافر والابتعاد عن الذات الفلسطينية، والكف عن اللجوء إلى الخطاب الإعلامي المنفر.
واليوم يتجه الفلسطينيون إلى الحوار في القاهرة وبرعاية مصرية عربية ولم يبقى أمامهم وقت طويل للتناور والتحايل والإلتفاف وتضييع الوقت على أمل أن يستفيد طرف من التحولات الإقليمية والدولية، ولكن تبدو الصور عكسية لكل التوقعات الفلسطينية، فالتغيير يعم المنطقة.. الولايات المتحدة على وشك أن تنهي إنتخاباتها الرئاسية لتدخل في هموم داخلية قد تستغرق وقتا طويلا، وإسرائيل ذاهبة إلى إنتخاباتها المبكرة وكل الدلائل تشير إلى عودة اليمين المتطرف إلى الحكم ثانية، وبعدها هناك إنتخابات في إيران ولا أحد يستبعد خيار الصفقة الشاملة ودخول إيران في حوار مع الإدارة الأمريكية الجديدة وكل هذا على حساب من؟ وهناك إنتخابات في العراق، ولا أحد يدرى ماذا يخبئ المسرح السياسي العربي والدولي من تحولات ومفاجآت؟ والسؤال المطروح أمام الفلسطينيين كيف سوف يتعاملون مع هذه التغييرات والتحولات في موازين القوة؟ هل بالإنقسام والتفكك ام بحكومة واحدة قوية وبرؤية سياسية قادرة على التخاطب مع الشرعية الدولية ومع موازين القوة الجديدة؟
وإذا لي أن أختم بكلمة واحدة: لن تكون المبادرة إلا فلسطينية وإن بدت صعبة، فالخطوة الأولى لا بد وان تكون فلسطينية ثم تأتي بعدها المبادرات العربية والإسلامية الداعمة للحوار الفلسطيني، وإلا سنواجه خيار التصفية والاستئصال.
عن شبكة أمين الاخبارية