لقد وجد الأوروبيون في سيطرة الدور الأميركي على طريق حل الصراع العربي - الإسرائيلي مبرراً لهم لكي يطفئوا الأنوار ويلزموا الصمت في كثيرٍ من الأحيان مكتفين بالدعم الإنساني للفلسطينيين مع بعض عبارات التبرير لجرائم إسرائيل! ويبدو أنهم لا يملكون أكثر من ذلك، فالجلوس في مقاعد المتفرجين أضمن حالاً وأسهل موقفاً وذلك كله رغم أن الجغرافيا تلزم الأوروبيين بغير ذلك خصوصاً في شمال البحر المتوسط حيث يقع الشرق الأوسط على الضفة الأخرى من بحر الحضارات، المصرية القديمة والرومانية والإغريقية، من هنا فإن بعض الشواهد الجديدة والظواهر المختلفة توحي بأن الأوروبيين ما زالوا على سلبيتهم ولكن جدّت على ساحتهم أمورٌ تستوقف النظر وتستدعي التفكير، ولعلّي أفصل هنا بعض ما أجملته في هذه المقدمة:

أولاً: لقد كشفت أحداث غزة والمذبحة الإجرامية التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني هناك عن تخاذل أوروبي واضح، وكانت تلك مفاجأة لعدد كبيرٍ من المراقبين للسياسة الدولية، حيث ظهر الموقف الأوروبي في مجمله ضعيفاً ومتخاذلاً لا يشير إلى جوهر القضية الفلسطينية ولكنه يكتفي فقط بالتعاطف الظاهري مع بعض تداعياتها الإنسانية، لذلك بدا الأمر وكأن تحفظ أوروبا تجاه حركة «حماس» قد شكّل الموقف الأوروبي كله تجاه القضية الفلسطينية!

ثانياً: إن ما يمكن تسميته بظاهرة ساركوزي هو أمرٌ لافت للنظر, فالرجل يبدو وكأنه اللاعب الأول في «السيرك الأوروبي» ينتقل من عاصمةٍ إلى أخرى ومن قضيةٍ أولى إلى قضيةٍ ثانية محتفظاً بعلاقاته الوثيقة مع واشنطن وولائه القوي تجاه إسرائيل في محاولةٍ للعب دورٍ قد يبدو غريباً على «فرنسا ديغول» ومختلفاً عن «فرنسا ميتران»! وقد استثمر نيكولا ساركوزي أحداث غزة بأقصى طاقته محاولاً إرضاء أكبر عددٍ ممكن من الأطراف حتى وإن كان ذلك مستحيلاً، ولعب الرئيس الفرنسي بأوراق مختلفة, فمرةً يكون ناطقاً باسم «الاتحاد الأوروبي» وتارةً أخرى مبادراً باسم «الاتحاد من أجل المتوسط» وهو لا يتراجع في كل الأحوال عن دورٍ رسمه لنفسه حتى وإن دخل في منافسة مع سيلفيو بيرلوسكوني رئيس الوزراء الإيطالي حول إعمار غزة, فالمهم أن يتحدث الجميع عن ساركوزي وأن يظل الرجل على المسرح أطول مدةٍ ممكنة.

ثالثاً: إن الدور البريطاني «العجوز» اختلفت بعض خصائصه منذ رحيل توني بلير عن «10 داوننغ ستريت» ثم نهاية ولاية جورج دبليو بوش في البيت الأبيض، فلم تعد العلاقات البريطانية الأميركية بدرجة التواصل نفسها وإن كانت في طبيعتها استراتيجية لا تتوقف، وثقافية لا تنتهي، واحتفظ الدور البريطاني أثناء أحداث غزة بتحفظه كالمعتاد وبالتوازن في ظاهره والانحياز لإسرائيل في الباطن، ويبدو أن ساركوزي ورث دور توني بلير ولكن من خلال شخصية فرنسية تبدو مستقلة نسبياً حتى في ولائها للولايات المتحدة الأميركية.

رابعاً: إن الدور الروسي –المحسوب على أوروبا جغرافياً على الأقل- يمرُّ في هذه المرحلة بحال تحول يقف فيها الاتحاد الروسي بين «روسيا القيصرية» و «روسيا السوفياتية» محاولاً استعادة جزءٍ من دوره المفقود، فإذا كان الوصول إلى «المياه الدافئة» ليس هدفه الوحيد فإن متابعة البرامج النووية والأنشطة العسكرية في شرق أوروبا والشرق الأوسط هو هاجس جديد يسيطر على أصحاب القرار في «الكرملين» واضعين في الاعتبار أن فلاديمير بوتين ما زال قوياً كما أن دوره الدولي لم يتقلص وشعبيته الداخلية لم تتراجع، ولدى العرب أملٌ كبير في أن يتحول الموقف الروسي إلى شيءٍ من الاعتدال في القضايا الدولية والإقليمية بصورةٍ توازن غلواء الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل والصمت الأوروبي المريب تجاه جرائمها المتزايدة.

خامسًا: نحن نسلِّم بأن الاتحاد الأوروبي ربما يكون أكبر مانح للفلسطينيين وداعمٍ لهم اقتصادياً، ولكن ذلك لم يتواكب أبداً مع دعمه السياسي للقضية الفلسطينية ولم يكن موازياً لوزن أوروبا السياسي وتأثيرها الدولي في المنظمات العالمية والمحافل المؤثرة على القرار الدولي، وقد يقول قائل: إن أوروبا لا تستطيع أن تقود موقفاً داعماً للفلسطينيين حتى وإن كان فيها من يريد ذلك لأن أوروبا في النهاية لا بد أن تحتفظ بالوجود على موجةٍ واحدة مع الدور الأميركي ولا تستطيع وحدها أن تنهض بموقفٍ مستقل خارج إطار التحالف الغربي في إطار «جماعة الأطسي».

سادساً: إن الدور الأوروبي في حقيقته مزدوج فإذا تحدثت مع بعض الديبلوماسيين الأوروبيين في جلساتٍ خاصة لوجدت أن نغمة التعاطف مع الفلسطينيين عالية وانتقاد السياسة الإسرائيلية مطروح، ولكن الأمر لا يتجاوز ذلك إلى موقفٍ عملي تقوده أوروبا صاحبة الخبرة الواسعة في شؤون الشرق الأوسط، سواء كان ذلك ميراثاً من الحقبة الاستعمارية أو نتيجة للتقارب الجغرافي، ولقد تعددت زيارات المسؤولين الأوروبيين للعواصم العربية ولكنها لم تتجاوز ذلك إلى ما يمكن أن يكون له تأثير مباشر على مسار الأحداث الدامية أثناء مذبحة غزة وما بعدها.

سابعاً: إن الدور التركي الذي لا يمكن حسابه على أوروبا بدا مختلفاً للمرة الأولى منذ عقود عدة. وإذا وضعنا في الاعتبار أن تركيا هي الدولة المسلمة الوحيدة في حلف الأطلسي لكان يمكن توقع استجابةٍ أوروبية تتناغم مع ذلك التحول التركي، ولكن هذا لم يحدث ولا نظن أنه كان متوقعاً لأن أوروبا تنظر إلى تركيا باعتبارها دولة شرق أوسطية أكثر تقدماً من جيرانها رغم الخلفية الإسلامية بل وعضوية الأطلسي أيضاً.

ثامناً: إن البعض يصف الموقف الأوروبي بالانتهازية والتأرجح ما بين العرب وإسرائيل وقد يكون ذلك صحيحاً ولكنه في النهاية شأن القوى الكبرى ذات المصالح المتشابكة والمواقف المسؤولة، من هنا فإنني لا أجرِّم الموقف الأوروبي ولكنني أكتفي بإيضاح أبعاده مع التعبير عن شيءٍ من الدهشة لذلك الصمت الرهيب الذي اتسمت به بعض الدوائر الأوروبية حيال أحداث غزة الأخيرة، بل إن شبهة الانحياز التي تلحق برجلٍ مثل ساركوزي وصل به الشطط إلى أن يكرس خطابه في مؤتمر إعمار غزة في شرم الشيخ للحديث عن الجندي الإسرائيلي المختطف شاليط باعتباره من أصل فرنسي، وكانت دهشتنا واضحة وساركوزي يذكر اسم ذلك الجندي ثلاث مرات في خطابه القصير! وهذا كله يدل على احترامه لإسرائيل وتبنيه لمطالبها.

تاسعاً: إن دعم الاتحاد الأوروبي لأبو مازن وحكومة سلام فياض هو تعبير عن درجة التعقيد في سياسات الشرق الأوسط عموماً، كما أن استبعاد «حماس» –رغم تحفظي على بعض مواقفها تجاه الصراع العربي الإسرائيلي- يبدو أمراً متفقاً عليه سواء تعلق ذلك بارتباطاتٍ استراتيجية أو مصالح عاجلة إذ أن الأمر يتوقف في النهاية على حسابات المكسب والخسارة لكل دولة في ما تفعل.

عاشراً: إن الظروف التي مرّت بها منطقة الشرق الأوسط في العقود الأخيرة توضح بجلاء أن الأوربيين ينظرون إلى إسرائيل كامتدادٍ ثقافي وحضاري فريد في المنطقة، ويعوّلون عليها في الحفاظ على مصالحهم في الشرق الأوسط، وقد لا تكون بمستوى النظرة الأميركية نفسها ولكنها تظل محكومة بالدور الأوروبي في قيام دولة إسرائيل والالتزام بأمنها مهما كانت الظروف المحيطة من حيث درجة الصراع وحدّته في الشرق الأوسط.

هذه ملاحظاتٌ أوردناها لنؤكد منها أن الموقف الأوروبي لم يكن على المستوى المتوقع منه بل اتصف بقدرٍ كبيرٍ من الصمت السلبي رغم التحركات الكثيرة والمواقف المعلنة التي احتوت من التعاطف الإنساني ما لم تُشر إليه من دعمٍ سياسي، وتلك على كل حال سمةٌ لا تنفرد بها اوروبا تجاه الشرق الأوسط وحده ولكنها تمضي معها وتلحق بها في كثيرٍ من المواقف الدولية المعاصرة، ولكي يكتمل الإطار الموضوعي لما نقول فإننا نثمِّن دور «الرباعية» التي تضُمُّ الاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي إلى جانب الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، وسوف نظل نتطلع إلى دورٍ أكثر إيجابية من شركائنا الأوروبيين الذين يملأون الدنيا ضجيجاً أمام قضايا الهجرة ويلزمون الصمت أمام جرائم العدوان!

عن صحيفة الحياة اللندنية