من بين ما أثاره قرار الحكومة بسحب سيارات قضاة المحكمة العليا وما استتبع قرار القضاة بمقاضاة الحكومة من جدل حول رواتب القضاة المرتفعة مقارنة بموظفي السلطة الوطنية، ولما للتباين بين الواقع وما تبلور من رأي عام من أثر على العدالة ومتطلباتها فلا بد من استعراض بعض الحقائق حول رواتب القضاة الفلسطينيين كما جاءت في ذيل قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002 ومن ثم سنعرض لموجبات رفع هذه الرواتب فيما يلي:

أولا: حدد ذيل قانون السلطة القضائية إجمالي راتب قاضي الصلح بمبلغ 1708 دولار، وإجمالي راتب قاضي البداية بمبلغ 1952 دولار، وقاضي الاستئناف مبلغ 2318 دولار، أما راتب قاضي المحكمة العليا فهو مبلغ 2806 دولار وهذه المبالغ خاضعة للاقتطاعات طبعا، ولا يتمتع أي من قضاة الصلح والبداية والاستئناف بأية امتيازات مالية أو معنوية خلافا لذلك، كما يحظر قانون السلطة القضائية على القاضي العمل في أي عمل خارج القضاء مهما كان نوعه تحت طائلة المسؤولية، طبيعة مهنة القضاء تتطلب من القاضي أن ينعزل عن الواقع الاجتماعي في ظل مدونة سلوك تحاصره حتى في منامه، في سبيل الحفاظ على حياده ونزاهته واتقائه لمواطن الشبهات.

ثانيا: بمقارنة رواتب القضاة الفلسطينيين برواتب أقرانهم في العالم العربي سواء بالرواتب المرتفعة أم المنخفضة فهي رواتب متدنية ونأخذ مثالين للمقارنة كل من رواتب القضاة في أبو ظبي ورواتب القضاة في الأردن، حيث الراتب الإجمالي لقضاة الفئة الأولى قضاة المحاكم الاتحادية العليا في أبو ظبي مبلغ 55900 درهم تقابل مبلغ 15231 دولار، ورواتب الفئة الثانية قضاة محاكم الاستئناف ورؤساء المحاكم الابتدائية الراتب الإجمالي 46600 درهم، أما الفئة الثالثة رؤساء النيابة العامة، وقضاة المحاكم الابتدائية الراتب الإجمالي 37600 درهم، أما رواتب القضاة في الأردن في الفئة العليا فهي مبلغ (1400-1600) دينار أساسي، وعلاوة قضائية مقدارها (120%) من الراتب الأساسي، وزيادة سنوية مقدارها (20) دينارا أي بمجموع مقداره بما يعادل مبلغ 5000 دولار شهري، أما قضاة الدرجة الخاصة فالأساسي هو (1110 -1210)، قضاة الدرجة الأولى (1010-1090)، وقضاة الدرجة الثانية (910 - 990)، وقضاة الثالثة (810 -890)، والرابعة (710-790)، والخامسة (610-690)، والسادسة(510-590)، والزيادة السنوية لجميع الدرجات(20) دينارا، ويتقاضى القضاة في الأردن من الدرجة الخاصة إلى السادسة علاوة قضائية مقدارها (100%) من الراتب الأساسي.

ثالثا: الأجر الملائم للقاضي باعتباره مبدءاً عالميا عنصر مهم للمحافظة على نزاهة وحياد القاضي، وهو من أهم المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية والتي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين بموجب قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 40/32 المؤرخ في 29 تشرين الثاني 1985 والقرار 40/146 المؤرخ في 13 كانون الأول 1985 في الفقرة (11) والتي جاء فيها" يضمن القانون للقضاة بشكل مناسب تمضية المدة المقررة لتوليهم وظائفهم واستقلالهم، وأمنهم، وحصولهم على أجر ملائم، وشروط خدمتهم ومعاشهم التقاعدي وسن تقاعدهم".

رابعا: في هذا المقام قد يقول البعض إن راتب القاضي الفلسطيني يفوق راتب مدير عام في السلطة الوطنية، لماذا لا يتكيف معه القضاة؟ رغم أن الإجابة لا ترتبط بتمايز طبقي بين القاضي والموظف العام باعتبار أن كلاهما يؤدي خدمة عامة إلا أن تكييف القاضي مع الحاجة والعوز لا يعني سوى إخضاعه بما يمهد لفساده، ماذا لو علا صوت معدة القاضي على صوت ضميره، هل ستكون النتيجة مماثلة على صورة النظام والعدالة كما لو تبدلت الأدوار؟؟ لماذا في كثير من الأنظمة العالمية لا يتم تحديد راتب معين للقاضي وله أن يأخذ من خزينة الدولة قدر حاجته التي يراها كافية لأن يعيش حياة تليق بمكانته كما في بريطانيا، ولماذا يتقاضى القضاة في الدول المجاورة ضعفي وثلاثة أضعاف رواتب المدراء العامون؟ هل رواتب القضاة الفلسطينيين في ظل متوسط الدخل المرتفع للمحامين الذين يترافعون أمامهم قادرة على استقطاب كفاءات جديدة للقضاء أو حتى المحافظة على الكفاءات الموجودة داخله؟؟ إن بقاء القاضي الفلسطيني على الوضع الراهن من حيث الاختناق القضائي وقلة أعداد القضاة وضعف المحفزات يخلق عداءاً وكدرًا وتنافسًا بين كثير من القضاة وبين المستفيدين من أحكامهم كالمحامين، كما يفتح الباب مشرعًا لتسرب المتميزين من أمناء العدالة، "ليلحقوا بصف المستفيدين من قطارها بعدما كانوا ربانًا وساسة له يومًا من الأيام".

خامسا: إن عمل القاضي تحت ضغط الحاجة ومتطلبات الحياة اليومية للعائلة يتناقض مع ابسط القيم القضائية في أي مكان وفي غابر الأزمان، ألم يقل رسول الله (ص): "لا يقضي القاضي بين اثنين إلاّ وهو شبعان ريّان" ألم يقل علي بن أبي طالب كرم الله وجه يوما أن " من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق" ألم يقل "الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل داعية للمقت"؟؟.

سادسا: إن حجر الزاوية في إصلاح القضاء هو تنمية القاضي الإنسان وتحسين أحواله المهنية وكذلك الاقتصادية بالقدر اللازم للمحافظة على القضاة المميزين داخل الجهاز القضائي، بل أكثر لاستقطاب كفاءات جديدة من المحامين لكافة درجات المحاكم إرتقاءا بمستواها المهني وفي سياق الإصلاح الإداري والتشريعي لمرفق العدالة، لما للقضاة المميزين من أثر بالغ في توسيع خيارات صانع القرار في اختيار أدوات التغيير من ناحية ومن ناحية ثانية تصليب القضاة في مواجهة الضغوط والمغريات التي قد تنال من نزاهتهم في لحظة حاجة وضعف، عدا عن أن تحسين رواتب القضاة عملية ستنعكس على ثقة المتقاضين بمرفق العدالة بشكل عام، بما يخلق بيئة مناسبة للاستثمار واستجلاب رؤوس الأموال وتنفيذ خطط السلطة الوطنية في الإصلاح والتنمية ذلك برسم العلاقة الطردية ما بين رواتب القضاة واستقلال القضاء، فكلما تدنت الرواتب كلما تهيأت البيئة للفساد والنيل من استقلال القضاء والعكس صحيح.

سابعا: زيادة رواتب القضاة لها أبواب مشرعة وتنسجم مع توجهات الحكومة دون تحميل الخزينة العامة أي عبء إضافي لهذه الزيادة ارتباطا بزيادة إيرادات المحاكم من الرسوم، فرسوم المحاكم المتدنية تتناسب والطبقة الفقيرة من المتقاضين إلا أنها لا تعني شيئا للطبقة الغنية منهم ولا تثقل كاهل المتقاضين من الطبقة الوسطى، وأقصد هنا المطالبات المالية أمام محاكم البداية بهيئاتها الثلاثية والتي تجاوز سقف مائة ألف دينار وأكثر، فحد الرسم الأقصى لها هو مبلغ 500 دينار في حين أنه في الأردن يصل إلى 5000 دينار، فلو تم رفع الحد الأقصى للرسوم في هذه المطالبات كما الحال في الأردن سيكون فارق الرسوم لوحده كفيلا بتغطية أية زيادات في رواتب القضاة، علما أن هذا الفارق سوف يسهم في تحسين أداء المحاكم من خلال المحافظة على الكفاءات الموجودة داخل القضاء واستقطاب كفاءات جديدة بما ينعكس على نوع الخدمات القضائية التي سيتلقاها دافع الفرق.

على ضوء ما تقدم، إذا كان لدى السلطة الوطنية وكافة أقطاب العدالة إرادة سياسية حقيقية لبناء جهاز قضائي قادر ومستقل وله اليد الطولى في تحقيق العدالة، فيجب عليهم إدراج مسألة تحسين رواتب القضاة ضمن خطة إصلاح مرفق العدالة باعتبارها متطلب وظيفة لا تمايزا طبقيا، سيما أن الواقع الحالي لرواتب القضاة كفيل بتسرب عدد من القضاة المميزين وذوي الكفاءة العالية من الجهاز القضائي، عدا عن أنها ستبقي الباب موصدا أمام دخول كفاءات مهنية جديدة للقضاء، ذلك أن القاضي المميز لا يملك تعطيل مرفق العدالة للضغط على صانع القرار لتحسين راتبه، فوسيلته الوحيدة للاحتجاج هي الاستقالة، فمزيد من الاستقالات في هذا الطريق سيجعل مرفق العدالة ينفجر في وجه السلطة الوطنية وصناع قرارها، ولن يكون هناك قضاء لإصلاحه حينها.

* قاضي سابق وباحث وخبير في الشأن القضائي