معادلة العلاقات بين اسرائيل وسوريا في الآونة الأخيرة تُذكر بصورة مقلقة بمنظومة العلاقات بين اسرائيل ومصر في سنوات 1971 – 1973. في تلك الاثناء عبّر الرئيس حديث العهد وغير المحترم في مصر، أنور السادات، عن استعداده لاقامة علاقات سلمية مع اسرائيل (هذا كان أمرا جديدا مدويا في مفاهيم تلك الايام). وفي هذه الاثناء استعد للحرب بل وحذر في أكثر من مرة من أن السنة القريبة ستكون "سنة الحسم". الفصل التالي في تسلسل الأحداث معروف لنا جميعا.

بشار الأسد ايضا يقترح التفاوض حول السلام ويهدد بالحرب. رغبته في استئناف المفاوضات مع اسرائيل برزت في عدة مرات قبل حرب لبنان الثانية، أما تهديداته بالشروع في الحرب واستعداداته لذلك فقد تصاعدت وتكثفت في السنة الأخيرة.

حتى ما قبل عدة اشهر كان الرد على مبادرات الأسد سلبيا. اهود اولمرت رفضها عدة مرات، احيانا كموقف خاص وفي احيان اخرى من خلال التبريرات غير المباشرة والتذرع بأن الولايات المتحدة تعارض استئناف المفاوضات الاسرائيلية – السورية.

متحدثون بارزون في ادارة جورج بوش لم يُخفوا بالفعل موقفهم السلبي المعارض لاستئناف المفاوضات، رغم أنهم حرصوا على عدم قول ذلك جهارا وبصورة رسمية حتى لا تظهر الادارة الامريكية في صورة من يُملي على اسرائيل موقفها في هذه القضية. وادارة بوش تكن العداء للأسد ونظامه منذ سنوات عدة. من وجهة نظر هذه الادارة يعتبر مجرد التفاوض العلني بين سوريا واسرائيل جائزة للحاكم السوري الذي تعتبره غير جدير بها.

عزله أو إسقاطه

غضب بوش وأعوانه على الأسد ينبع من عدة اسباب وأهمها المساعدة اللوجستية للثورة السنية ضد الولايات المتحدة وقواتها في العراق والسياسة السورية في لبنان: الرغبة في الحفاظ على الهيمنة السورية واغتيال الحريري ومحاولة اسقاط حكومة فؤاد السنيورة التي كانت بالنسبة لادارة بوش النجاح الأساسي (وربما الوحيد) في تصدير الديمقراطية الى الشرق الاوسط. التحالف السوري – الايراني، العلاقات مع حزب الله ورعاية التنظيمات الارهابية الفلسطينية في دمشق واستضافتها اعتُبرت هي الاخرى اسبابا مُدينة لسوريا.

في عام 2005 بدا وكأن بوش يسعى الى اسقاط الأسد، إلا أن رئيس الولايات المتحدة امتنع عن اجتياز الخط الفاصل في هذه القضية في اللحظة الأخيرة. هو خشي على ما يبدو من أن يؤدي اسقاط الأسد الى تنصيب نظام يرتبط بحركة الاخوان المسلمين في سوريا. من هنا جاءت محاولة عزل الأسد بدلا من محاولة اسقاطه. بوش اعتبر المفاوضات الاسرائيلية – السورية في هذا السياق خطوة مساعدة للأسد للخلاص من عزلته وكسب الشرعية الدولية. أضف الى ذلك أن الكثيرين في واشنطن وفي القدس يعتقدون بأن الأسد لا ينوي التوصل الى تسوية سلمية مع اسرائيل وأن كل هدفه من ادارة المفاوضات هو التفاوض بحد ذاته.

تحفظ اولمرت من مبادرات الأسد نبع من اعتبارات اخرى. هو أخذ في الحسبان بلا شك موقف ادارة بوش وكان شريكا في شكوكها، إلا أن اعتباراته الأساسية كانت مغايرة. اولمرت، كما يتوجب أن نذكر، انتُخب كخليفة وامتداد لاريئيل شارون الذين دعا الى تسوية القضية الفلسطينية وعارض الانسحاب من الجولان الذي هو نتيجة لكل تسوية مع سوريا. صحيح أن خطة الانطواء التي طرحها اولمرت قد سُحبت بعد انتخابه بفترة قصيرة، وصحيح أنه كان منذ حرب لبنان مشغولا بدرجة كبيرة في بقائه السياسي، إلا أن تحفظه من مجرد الدخول في المفاوضات مع سوريا نبع من ذلك. اضافة الى ذلك كان واضحا لاولمرت انه ليس قادرا من الناحية السياسية على تطبيق تسوية مع سوريا، وأن مجرد الشروع في المفاوضات سيُقيم عليه ائتلاف الجولان الهجومي والضاغط.

كان لحرب لبنان الثانية تأثير متنوع على هذه الاعتبارات. هذه الحرب زادت من الغضب على سوريا، ولكنها رفعت ايضا من مستوى الخوف من التدهور نحو حرب جديدة في الشمال، سواء بسبب التطورات المحتملة في لبنان أو من خلال المبادرة السورية.

واشنطن تقول نعم و لا

سوريا بالفعل تبذل جهودا ملموسة في الآونة الأخيرة في تحسين قدراتها العسكرية. الجيش السوري تدهور في التسعينيات بفعل عاملين أساسيين: انهيار الاتحاد السوفييتي الراعي والممول لسوريا بالاسلحة في العقود السابقة، وتوقف الدعم المالي من السعودية ودول الخليج الذين كانوا في السابق يشاركون في صفقات السلاح الكبرى لسوريا. سوريا اعترفت بتدني مستواها العسكري بالمقارنة مع اسرائيل، وحاولت بناء قدرتها الردعية على ركيزتين: صواريخ سكاد ذات الرؤوس القتالية والكيماوية المحصنة والمخبأة في اراضيها، والصواريخ التي تم إمداد حزب الله بها.

هذا الوضع تغير بسبب استعداد روسيا لامداد سوريا بأسلحة حديثة واستعداد ايران لتمويل هذه الصفقات. هذه العملية تمر في ذروتها، ولكن مع استكمالها ستصبح سوريا مزودة بقدرات جديدة وثقة ذاتية متجددة. على هذه الخلفية هناك مصلحة كبيرة في التغيير الذي طرأ في الاسابيع الأخيرة على موقف واشنطن والقدس المعلن، وكذلك في الأمور التي صرح بها الأسد حول قضية المفاوضات مع اسرائيل إبان إدلائه بيمين القسَم لولايته الثانية.

واشنطن أوضحت مؤخرا، بداية من خلال التحاور الهادىء مع اسرائيل، وبعد ذلك على لسان بوش خلال زيارة اولمرت الأخيرة، بأنها لا تعارض التفاوض بين اسرائيل وسوريا رغم انها لا ترغب بأن تكون طرفا أو شريكا في هذه العملية. بهذه الطريقة تواصل ادارة بوش، وإن كان بصورة أكثر لطفا، إبداء تحفظها من هذه المفاوضات. رسالتها الى الأسد: اذا كنت تعتبر ذلك مسارا سيؤدي الى استئناف الحوار مع واشنطن فالخطأ في جانبك. من جانب آخر ليست الادارة الامريكية مُعرضة للانتقادات التي تعتبرها معرقلة لامكانية تحسين العلاقات بين اسرائيل وسوريا.

اولمرت من ناحيته لم يعد يرفض فكرة التفاوض تلقائيا، بل على العكس: هو تحدث علانية عن محاولات لانشاء قناة سرية ومباشرة من خلال طرف ثالث. هذا التغيير في موقفه سهل على التفسير ايضا. تحديدا في ظل خطر التدهور نحو الحرب مع سوريا في السنوات القريبة، لا يرغب اهود اولمرت بالظهور في مظهر من يرفض الاقتراحات التفاوضية السورية، ومن الأفضل له في هذه الحالة أن يقترح مفاوضات سرية لجس النبض حول رزمة تسوية تشمل في سياقها علاقات دمشق مع طهران وحزب الله.

ولكن في الوقت الذي تقوم فيه واشنطن واسرائيل بالتخفيف من مواقفهما (العلنية على الأقل) شدد الأسد من موقفه حيث قال في خطاب التتويج للولاية الثانية ان هناك محاولة لاستئناف المفاوضات عبر طرف ثالث (تركيا)، إلا أنه حدد شروطا تمهيدية متصلبة: محادثات علنية وغير مباشرة، وتعهد مسبق بالانسحاب الاسرائيلي كشرط لبدء المفاوضات (الأسد ذكّر بوديعة اسحق رابين كمثال على ذلك من دون أن يوضح بأن هذه الوديعة والودائع المشابهة التي قدمها ورثته لم تشمل عنصر "التعهد والالتزام").

هذا الموقف يعني خطوة للوراء. في التسعينيات وفي عام 2000 أجرت سوريا واسرائيل مفاوضات مباشرة وسرية، وإن كانت بمشاركة ممثل امريكي دائما؛ مطلب التعهد المسبق بالانسحاب الكامل كشرط للدخول في المفاوضات كان العامل الأساس لفشل المحاولات السابقة في بلورة تسوية سورية – اسرائيلية.

رغبة في التحريض

هناك عدة اسباب وراء تصليب الموقف السوري. أحد هذه الاسباب هو الرغبة في التحريض بحد ذاته. منذ ازمة 2005 إثر اغتيال الحريري ازدادت ثقة الأسد بنفسه، وهو يعتبر نفسه كمتصرف من موقع القوة (الدعم الايراني، التأثير في لبنان، التأثير على حماس والجهاد)، وإن كانت ادارة بوش وحكومة اولمرت تتحفظان من المفاوضات مع سوريا وتضعان الشروط، فان رده الطبيعي هو وضع شروط خاصة به.

الاعتبار الذي لا يقل أهمية عن ذلك عند الأسد هو رغبته في الرد على ما تعتبره دمشق تجاهلا لسوريا. خطاب بوش الأخير حول إحياء عملية السلام العربية – الاسرائيلية ركز على القضية الفلسطينية فقط. مهمة طوني بلير تتمحور هي الاخرى في القضية الفلسطينية دون غيرها. بوش ورايس أوضحا في مرات عدة أنهما يتطلعان لابقاء "تركة" أو "بصمات" ايجابية (خلافا للعراق) على صورة تسوية اسرائيلية – فلسطينية.

هذا الاتجاه ليس مقبولا على الأسد ونظامه، وردهم النمطي الأول هو التشدد في الموقف. بعد ذلك سيتم تدارس خطوات اخرى مثل تحريك العملاء الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة والشركاء اللبنانيين لتسخين الساحة والتوضيح بأن إبقاء سوريا خارج الصورة مسألة غير ممكنة. في وقت لاحق، مع تقدم العملية، قد تحدث انعطافة نحو خيار أكثر راديكالية.

ما هو معنى هذه الامور بالنسبة لاسرائيل؟

ميل حكومة اولمرت الطبيعي هو تفضيل المسار الفلسطيني. في هذا المسار توجد منذ زمن صيغة للعمل وهو مفضل من قبل الولايات المتحدة، وفي واقع الأمر بالنسبة لاغلبية العالم العربي. "المبادرة العربية" ورسائل اخرى تُعبر عن موقف الدول العربية السنية المحافظة الداعي الى قيام اسرائيل باحداث تقدم بارز في المجال الفلسطيني حتى يتمكنوا من التعاون أو على الأقل تنسيق المواقف في مواجهة التهديد الأساسي القادم من طهران.

سيكون من الحكيم والصحيح بالنسبة لاسرائيل أن تتقدم في هذا المسار، إلا أنه ليس من مصلحتها أن تحشر سوريا في الزاوية. لذلك يحظر الرد على تصليب الموقف السوري من خلال شد الأكتاف للوراء واغلاق الباب. يجب أن يكون الرد رفضا مباشرا للشروط الأولية التي يطرحها الأسد واشارات متواصلة بالرغبة في التفاوض المباشر أو السري من اجل استيضاح مدى الامكانية الحقيقية للتسوية التي تستجيب لاحتياجات اسرائيل ومطالبها. في ذات الوقت من الضروري زيادة واعادة بناء قوة الردع الاسرائيلية في مواجهة سوريا، من الناحية الجوهرية وكذلك من ناحية الصورة على حد سواء، من اجل إضفاء الحزم والجدية على المواقف السياسية التي ستقرر تبنيها. هآرتس 8/2/2007 -