نظر أربعة رجال شرطة مسلحون يلبسون ملابس منمرة مكوية، ذات لون أزرق – أخضر، من مقاعد سيارة النقل التي تقلهم نحو الشارع الرئيس الذي يتجه من معبر بيت ايل الى مركز المدينة. كانت الساعة السادسة قبيل الغروب. نزل آخر عمال البناء عن سقالات المباني المتعددة الطوابق التي تظهر في كل ركن في مركز رام الله. لم يُرَ بشر عند مدخل المبنى الحجري المشرق لوزارة الخارجية، وهو الذي أودعه الرئيس محمود عباس في يد وزير المال، سلام فياض، مع مكتب رئيس الحكومة. كانت الحركة في المنطقة التجارية ضئيلة، وكانت أصوات صافرات السيارات هادئة نسبيا والتف السائقون، كالعادة في رام الله، على السيارات بوحشية متجاهلين الاشارات المرورية.
يستخفي مطعم دارنا بين أزقة جانبية. هذا هو مكان اللقاء لكبار الساسة والصحافيين والتجار والقلة الذين يوجد قرش في جيوبهم. ثمن كأس القهوة في دارنا – 10 شواقل – يساوي الدخل اليومي لعائلة متوسطة في الشارع المجاور. شحن النادل النراجيل وقاد رفيقه عائلة تلبس ملابس فخمة الى احدى الطاولات في باحة واسعة من المطعم.
صافح د. مصطفى البرغوثي، الذي كان احد رعاة الحلف بين فتح وحماس وحصل عوض ذلك على ولاية قصيرة وزيرا للاعلام في حكومة اسماعيل هنية، بأدب ياسر عبد ربه، عضو الحزب القزم لرئيس الحكومة فياض. وتقدم عزام الاحمد، رئيس كتلة فتح في المجلس التشريعي الفلسطيني الذي خلا من المضمون ومن الاعضاء، ليحيي بتواضع. لحظ ان الجميع يعرف بعضهم بعضا. كان أحدهم منذ وقت قريب رجلا مهما، ولا يوجد له اليوم حتى سائق. وكان آخر في الامس حليفا واصبح اليوم خصما ألد.
ليس دارنا وحده. ان الشك والهزء يدفعان عن جدول العمل اليومي السياسة والامل في التغيير. منذ وقت غير بعيد افتتح في رام الله نادٍ رياضي، يساوي تلك النوادي التي يمكن ان توجد في شمالي تل أبيب. قُرن بكل جهاز شاشة بلازما. القاعة الواسعة محاطة بجدران زجاجية براقة، يمكن من خلالها للمتمرنين ان ينظروا الى السطوح الحمراء لمستوطنة بساغوت التي تطل عليهم من الاعلى. يقول احد المعارف من الفلسطينيين اهتم بشراء اشتراك شهري في النادي، انهم طلبوا منه 450 شاقلا. يقول رب البيت انه يعلم ان هذا ليس مالا قليلا، لكنه مقتنع بان الانفصال من غزة والاتصال من جديد بالدول المانحة سيحسن تحويل المال النقد الى عاصمة الضفة الغربية. فهو يعتمد على ان هذا المال سيأتيه بزبائن دارنا، الذين سيريدون أن يطرحوا عن أنفسهم الكيلوغرامات الزائدة التي اضافوها لانفسهم في المطعم.
لتذهب غزة الى الجحيم
دخل عبد ربه والاحمد الى القاعة المرتجلة التي اقامها افراد شبكة التلفاز "الحرة" في الطابق الثاني من المطعم. اقيمت "الحرة" قبل ثلاث سنين على يدي الادارة الامريكية، على أنها رد على "الجزيرة" و "العربية". انها تبث بالقمر الصناعي الى 22 دولة في الشرق الاوسط، جاهدة في تسويق سياسة دمقرطة الرئيس جورج بوش. ان مقدار نجاح الشبكة الامريكية في التغلغل الى طبقات واسعة من الجمهور العربي وفي ازالة الشك بها، مختلف فيه. لم تطأ اقدام افراد الفريق قطاع غزة. دعا المخرج الشاب، آدم نيكسون الاثنين الى نقاش لمستقبل المناطق والمسيرة السلمية.
لم يدعَ أي ممثل لحماس للمشاركة في "المائدة المستديرة". لم يذكر إمكان المصالحة بين الحركتين السياسيتين ولو رمزا في النقاش الطويل كله. يعلم الجميع أن عباسا يرفض الاصغاء في هذه المرحلة الى العفو عن حماس في اعقاب مؤامرة اغتياله عشية السيطرة على غزة. التأكيد هو لـ "هذه المرحلة" والاراء مختلفة. في المعسكر المقرب من أبي مازن، الذي يشتمل على عبد ربه وصائب عريقات، يجب أن تنتهي مرحلة القطيعة التامة بين الضفة وغزة وبين فتح وحماس بزحف أناس حماس الى المعسكر الخصم. يؤمنون هنالك بان التغيير قد يأتي من الاسفل فقط، من الجمهور الغزي، الذي سيضيق بشغب المتطرفين الدينيين وبأكل الخبز والزعتر. ويرون ان شق طريق في التفاوض مع اسرائيل في اتفاق المبادىء في شأن انهاء الاحتلال، قد يزيد ضغط الشارع الغزي لحكومة حماس ويعجل الزحف.
في المعسكر الاخر، معسكر فياض، يتركون طول الوقت بابا مفتوحا لقيادة حماس. أذن رئيس الحكومة، وهو د. في الاقتصاد، مصغية الى رنين المال، أي الى نغم السعودية. منذ حل حكومة الوحدة والنغم الذي تأتي من الرياض شديدة الايذاء للاذن. يرى عبدالله فشل "اتفاق مكة" مشكلة شخصية ودينية. انه يزعم ان نقض الاتفاق الذي وقع في أقدس مدينة للمسلمين استخفاف للقرآن. لا اقل من ذلك. قبل اسبوعين وجد عبدالله وعباس في عمان في الوقت نفسه، لكن الملك رفض علنا رؤية الزعيم الفلسطيني. وقد أعلن بانه لن يحول دولار واحد الى رام الله، او الى غزة، قبل أن يعيد عباس وهنية اليه والى "اتفاق مكة" كرامتهما. التزم ابو مازن ان يؤتى بكل تفاهم في اتصاله باولمرت ليجيزه الملك وان يوافق المبادرة السعودية التي ولدت مبادرة السلام العربية في بيروت، التي حظيت هذا العام بتصديق في الرياض من جديد.
انضم رجل جلس الى الطاولة المجاورة وعرض نفسه على أنه غزي الى الحديث. قال ان حماس لا تكتفي باسكات افراح الاعراس في القاعات وفي الفنادق وترسل شبانها ذوي اللحى لتفجير احتفالات النكاح المتواضعة في الخيم التي يقيمها بسطاء الشعب في ساحات بيوتهم. اضاف الرجل وتحدث عن مخالف للقانون اطلق من سجن غزة، بشرط أن يقتل أمه واختيه اللاتي فعلن الفاحشة. اضيف ثلاث ضحايا الى القائمة ذات الخانتين من النساء اللاتي قتلن في غزة منذ سيطرت حماس على القطاع في منتصف حزيران. انه يعتقد ان فقدان الأمن الشخصي والاقتصادي سيخضع حماس إن عاجلا أو آجلا. وقال ان اسرائيل تستطيع جعل ذلك يحدث عاجلا. ويقترح فتح معبر إيرز للعمال الذين لا يتصلون بالحركة الاسلامية فقط. أما ايرادات الضرائب التي يحسمها أرباب العمل الاسرائيليون من أجورهم، فانه يوصي بتحويلها الى السلطة في رام الله. وبيّن أن اعمالا من هذا القبيل هي الرد الأنجع على التفضلات التي تُقسمها حماس على رجالها، مثل الاعفاء من الرسوم الدراسية.
ليس هذا وقت حل الألغام
من جهة المستويات السياسية وأكثر المستويات المهنية في اسرائيل، غزة حالة خاسرة لسنين كثيرة. يعتقدون في القدس أنه مهما تكن نتائج التفاوض مع أبو مازن فان حماس لن تتنازل عن السيطرة على القطاع. ويرون أنه اذا أراد أبو مازن الحصول على ثقة الشعب الفلسطيني باتفاق مبادىء مع اسرائيل، فان حماس لن تُمكّن أي صندوق اقتراع من دخول غزة. وجد اولمرت وعباس لغة مشتركة في كل ما يتعلق بحماس. تنحصر محادثتهما في تحسين وضع سكان الضفة الغربية فقط. فمن جهتهما الغزيون ليسوا شركاء في أي شيء الى أن يلفظوا حماس من بين ظهرانيهم. تتناول خطة سلام شمعون بيرس ايضا غزة على نحو يخالف الضفة. لم يفطم بيرس نفسه تماما عن إدمان الخيار الاردني. يقترح الرئيس ترك حل مشكلة غزة الى ايام أفضل وأن يُجند الاردنيون في جهد عام لاعادة بناء الضفة الغربية وشرقي القدس.
قدّم بيرس خطته الى اولمرت في وقت قريب من دخوله منزل الرئيس آملا أن يتجاوز رئيس الحكومة تردده وأن يتناول الورقة بجدية. ولم يكن اولمرت مفاجئا مقربي بيرس بل الرئيس نفسه ايضا. فبعد أن تسرب جوهر الوثيقة الى الصحف، نقل اولمرت الى بيرس رسالة أن ليس هذا هو وقت حل ألغام كالقدس واللاجئين. لا ينجح حتى الصديق الجيد لرئيس الحكومة، النائب حاييم رامون، في اقناعه بتعيين "ادارة سلام". أصبح من المفهوم ضمنا تقريبا أن رامون يتوقع أن يُعينه اولمرت رئيس الادارة الجديدة.
في الحقيقة أن الاختراع ليس جديدا الى هذا الحد. منذ أكثر من سبع سنين وهو مسجل باسم اهود براك، الذي كان آنذاك رئيس الحكومة ووزير الدفاع. عيّن براك لرئاسة ادارة السلام ضابطا رفيعا (العقيد شاؤول اريئيلي)، من اجل أن يؤكد أهمية الجوانب الأمنية للتسوية مع الفلسطينيين. يعلم اولمرت أن تعيين رامون رئيسا للادارة وصفة لحرب كبيرة مع براك ولتعزيز العلاقات بين وزير الدفاع ووزيرة الخارجية، تسيبي لفني، التي هي مؤيدة صغيرة للزوجين اولمرت – رامون.
من جهة ثانية، بعد بضعة ايام ستعود الى هنا وزيرة الخارجية الامريكية رايس، وستريد أن تعلم ما الذي ينوي اولمرت فعله من اجل مؤتمر بوش الدولي. في واشنطن ينظرون بجدية وبقلق الى خطر أن يزيح اخفاق المبادرة الجديدة البساط من تحت قدمي فتح الظالعة وأن يدفع بالضفة ايضا الى ذراعي حماس. من اجل منع هذا السقوط، يطلب الامريكيون أن تعرض اسرائيل على عباس ورقة تبدو مثل مخطط لاتفاق دائم، لا كمحاولة شفافة لتجريد اتفاقات أكل الدهر عليها وشرب، من سلة القمامة. - هآرتس 21/8/2007 -